الاحتفاء بالمعرفة الإنسانية فى أبوظبى للكتاب
إيهاب الملاح
آخر تحديث:
السبت 4 مايو 2024 - 6:15 م
بتوقيت القاهرة
أظنها المرة الأولى ربما التى يجتمع فيها مثل هذا الحشد الضخم جدًا من الكتّاب والمفكرين والمبدعين والفنانين فى تظاهرةٍ ثقافية كبرى استضافها معرض أبوظبى للكتاب فى دورته الثالثة والثلاثين (خلال الفترة من 29 أبريل وحتى 5 مايو 2024).
حلَّت مصر ضيف شرف المعرض هذا العام بتمثيلٍ رسمى رفيع المستوى ترأسته وزيرة الثقافة المصرية، ومشاركة احتلت نصيب الأسد من فعاليات المعرض على كل المستويات (الناشرين، وصناع المحتوى، والمتحدثين، ومقدمى الحوارات.. إلخ). أما شخصية المعرض فكان العظيم نجيب محفوظ الذى نال النصيب الأوفر من الندوات والفعاليات التى أعدت خصيصا للاحتفاء به وبمنجزه الروائى والأدبى عموما، ونظمت على شرفه ندوات وموائد مستديرة و«بود كاست» ومعرض مصاحب وغير ذلك من الأنشطة.
هناك العديد من المشاهد والموضوعات التى يمكن الحديث عنها تفصيلًا والتوقف لتحليلها باستفاضة، لكن لحدود المساحة سأكتفى باللمحة العابرة والإشارة المركزة. بالتأكيد ثمة نشاط حقيقى وفعاليات كثيرة تستحق التأمل والنظر والنقاش، فضلًا على هذا التجمع الذى شمل بين المئات من الضيوف الكرام، تلك الصفوة الممتازة من العقول المفكرة العربية من أقصى المغرب إلى أقصى المشرق.
هذه واحدة من أهم وأكبر مزايا معارض الكتاب الدولية «الدورية» والفعاليات الثقافية الكبرى التى يقف وراءها جهد تنظيمى ضخم وجبار، وإمكانيات هائلة لكن ثمرتها الناضجة تستحق بالتأكيد، فكيف يتأتى لهذا العدد الذى يجل عن الحصر أن يجتمع فى هذه الأيام المعدودة فضلًا على قيمة وحضور ومنجز أسماء بقيمة إبراهيم عبد المجيد، ومحمد سلماوى، ومحمد صابر عرب، ومحمد عفيفى (من مصر مثالًا وليس حصرا) وعبد الله إبراهيم (من العراق) والمفكر الكبير الدكتور رضوان السيد (من لبنان) والمفكر والروائى المغربى المرموق الدكتور سعيد بن سعيد العلوى، والكاتب والروائى الجزائرى الكبير واسينى الأعرج، وعشرات أخرى غير هذه الأسماء لا تقل عنها جدارة ولا قيمة ولا حضورًا.
عنى فإن الدقائق التى حصلتها فى لقاءات سريعة أو عابرة مع بعض هذه الأسماء كانت كفيلة بإعداد برنامج منظم لقراءات وإعداد حوارات وأحاديث، قد تستغرق شهورا من القراءة والكتابة والتحضير والجمع. هذه فائدة كبرى لمن أنعم النظر وأطال التأمل فى حضور هذه التظاهرات الثقافية الكبرى. الأمر على الأقل بالنسبة لى لا يتوقف على جانبه الاحتفائى والتكريمى، أنظر للأمر من جانبه المعرفى والثقافى التفاعلى، فليس متاحا طول الوقت أن تقابل شخصا بتاريخ وقيمة الدكتور رضوان السيد على سبيل المثال وهو من هو فى خريطة المعرفة العربية المعاصرة.
ندوته - على سبيل المثال - عن كتاب «كليلة ودمنة»، وإعادة قراءته والنظر فيه باعتباره مثالًا على ما يعرف فى التراث العربى بكتب «مرايا الأمراء» وتحليله من منظور إعادة قراءة الفكر السياسى فى الإسلام والثقافة العربية، لعله من أعمق ما قدم فى هذا الصدد. دعوتى نفسها للمشاركة فى البرنامج الثقافى لمعرض أبوظبى جاءت ضمن هذا المحور المهم.
كانت هذه واحدة من المفاجآت السعيدة التى أعلن عنها معرض أبوظبى للكتاب الـ33؛ أعنى اختيار «كليلة ودمنة» لابن المقفع، كتابَ المعرض المحتفى به، بوصفه أحد أبرز الكتب فى التراث الإنسانى التى أثرت فى مسيرة الثقافة والأدب فى التاريخ. حيث يحتفى المعرض بالكتاب ضمن محورٍ كامل مستحدث تحت عنوان «كتاب العالَم» يتضمن لقاءات وندوات تدور حول «كليلة ودمنة» الذى يعد درة قصص الحيوان فى التراث الإنسانى كله، والذى تُرجم إلى كل لغات العالم من نسخته العربية الكاملة التى كتبها وحررها عبد الله بن المقفع.
وقد أسعدنى الحظ بالمشاركة فى الجلسة الافتتاحية لهذا المحور تحت عنوان (كتاب «كليلة ودمنة» من المخطوطات إلى القراءات الحديثة)، بمشاركة الصديق العزيز الدكتور محمد سليمان رئيس قطاع التواصل الثقافى بمكتبة الإسكندرية، والكاتبة الجزائرية شهرزاد العربى.
وأشير هنا - سريعًا - إلى أهم المحاور وأكثرها جاذبية وإثارة فى هذا اللقاء، وهو الجانب الفنى الذى ارتبط بـ «كليلة ودمنة»، وإثارته للمخيلة المبدعة فى استلهام عشرات اللوحات الفنية من قصصه وحكاياته قديما وحديثا، فضلاً على إخراج نسخة «محققة»، مُقابلة على ما وصلنا من مخطوطات الكتاب عبر القرون، والمقارنة بينها والمضاهاة بين نصوصها، وصولاً إلى النسخة الأكثر اكتمالاً وتماما من هذا الأثر الإنسانى الجليل.
ومن هنا تأتى قيمة هذه الطبعة «التاريخية» الممتازة التى أخرجتها دار المعارف المصرية فى مطالع أربعينيات القرن الماضى، بمناسبة الاحتفال بخمسينية الدار العريقة. وبحسب النص الذى سجله المرحوم شفيق مترى مدير الدار آنذاك، فقد صدر عن الدار «طبعة محققة فاخرة من كتاب «كليلة ودمنة»، وثَّق مصادرها، وحقَّق نصها الدكتور عبد الوهاب عزام، وقدَّمها إلى القراء الدكتور طه حسين تقديما هو دراسة قيمة تُقرأ لذاتها»..
(وللحديث بقية).