منورة بأهلها
غادة عبد العال
آخر تحديث:
الخميس 4 يونيو 2009 - 8:54 ص
بتوقيت القاهرة
(1) سائحة سويدية تقف مذهولة أمام مشهد لأكثر من 10شباب يصطفون داخل محل للحلاقة وتتابع بذهول أكبر أب يشترى حذاء المدرسة لابنه الصغير من محل أحذية (مصدر ذهولها أن الحدثين بيحصلوا الساعة 3 الفجر..فيها حاجة دى؟..أبدا)..
(2) موظف ألمانى يتجول فى القاهرة فيسجل بكاميرته مشهد لسيدة تعبر الطريق بالطريقة المصرية المعتمدة المقتبسة من لعبة أتارى شهيرة (اللعبة اللى بتحاول فيها الفرخة إنها تعدى الشارع وفى الآخر فى الغالب بتتفرم).. تفقد السيدة فردة حذائها فى منتصف الطريق وتحاول استعادتها يقف ليراقبها لمدة 20 دقيقة، وفى النهاية ينقل ما صوره لمديره المستثمر الألمانى الكبير فيهرب بمشروعه خارج البلد..
(3) وفد يابانى استقدمته إحدى المؤسسات الحكومية للمساعدة فى حل «مشكلة» ميدان رمسيس وإعادة تنظيمه، كرسوا أسبوعا كاملا لمراقبة حركة السير فى الميدان ثم قدموا نتيجة دراستهم فى جملة واحدة كانت ترجمتها (وحياة أبوكو تقولولنا الميدان ده ماشى إزاى؟)..
ثلاثة مواقف قد تعطى السائحين فى القاهرة صورة مشوهة عن القاهرة وسكانها وحالة المرور فيها، لكنها مواقف لا يمكن فهمها إلا بدراسة مكثفة لظروف معيشة المواطن القاهرى المقهور.. القاهرة الكبرى بعدد سكانها الذى يزيد على 15مليون شخص وعدد زائريها الذى يتراوح ما بين 1.5و2 مليون زائر يومى وعدد سياراتها الذى يبلغ أكثر من مليون سيارة كان لازم ظروف الحياة فيها تجبر المواطنين على تنمية قدراتهم الإبداعية ومواهبهم المكبوتة تحت شعار « الجيش بيقول اتصرف»..
يعنى أعضاء الوفد اليابانى كان ممكن ــ لو شغلوا أمخاخهم شويه ــ يفهموا إن استدعاءهم لتطوير ميدان رمسيس مالوش علاقة بتسهيل حركة المواصلات ولا البشر فيه.. لأن الهدف الأساسى لإنشاء الميدان كان القضاء على الازدحام السكانى فى القاهرة بحبس المواطنين اللى عاملين زحمة داخل الميدان مايخرجوش منه حتى تنتهى الأزمة سنة 2055.. ومن هنا جاءت الفكرة الألمعية «بتحزيم» الميدان كله بالقوائم الحديدة وسد كل طرق عبور المشاة.. وإن الحاجة الوحيدة اللى ممشية الميدان هى ظهور مواهب المصريين فى رياضة قفز الحواجز الميدانية وقدراتهم اللامحدودة فى المشى عكس السير..
فكان ضروريا استدعاء اليابانيين اللى لو صبروا على رزقهم شوية كانوا فهموا إن المطلوب منهم هو المشاركة فى المشروع التنموى الجديد بكهربة كل الحواجز ووسائل المواصلات وتفجير محطة القطر للمساعدة فى الحد من ظاهرة الانفجار السكانى.. الموظف الألمانى الحقود اللى تسبب الفيلم اللى صوره إن شركته الألمانية خدت ديلها فى سنانها ولغت مشروعاتها وهربت من البلد مافهمش هو ولا رؤساؤه مفهوم شعار الألفية الجديدة «مصر بتتقدم بينا..الحقها بسرعة قبل ما الإشارة تقفل»..
فردة جزمة إيه اللى هنقفلها ونوقف معاها عجلة التنمية؟.. وبعدين هو بانصرافه من موقع الحادث فاته إنه يشوف الست وهى بتتمكن أخيرا من استعادة حذائها بقفزة ثلاثية رهيبة لو أدتها فى إحدى الدورات الأوليمبية لعادت إلى أحضان وطنها مكللة بالذهب.. الأخت السويدية المرفهة اللى شعب بلدها بينتحر من كتر الفضا.. تنسى أو تتناسى تأثير جينات المصريين القدماء التى تجرى فى دمائنا حتى الآن..
إحنا.. شعب.. منظم.. مقسمين نفسنا ورديات.. وردية تنزل البلد الصبح ووردية بالليل.. لو نزلنا البلد كلنا مرة واحدة البلد تقف.. يعنى مافيش أى علاقة بين سهرنا طول الليل ونومنا تانى يوم فى أشغالنا وإنتاجيتنا اللى بيقدروها الظلمة فى المنظمات العالمية بـ 17 دقيقة فى اليوم.. دى موهبة تنظيمية فطرية مش هتلاقى ضفرها فى بلدهم أبدا.. القاهرة لغز من الألغاز.. ماحدش فاهم هى ماشية إزاى.. ولا حد فاهملها حل.. خالص..
حتى خطط التطوير المعلن عنها واللى المفروض تتنفذ بحلول عام 2020 بوجود 14 خط مترو جديدا وزيادة عدد الوحدات السكنية وتوسيع الطرق ونقل المقابر وتنظيف مقالب القمامة واستغلال أماكنها.. بتفكرنى بدرس الحياة سنة 2000 اللى كانوا بيقولولنا فيه إن التحرك من مكان لمكان هيكون بالانتقال الآنى وإن العربيات هتمشى فيها بعصير الجرجير..
القاهرة وسكانها زى الماية والسمك.. أو زى الأرض والشجر.. لكن بعد كام سنة هتقف ومش هيبقى فيها مكان لرجل وكالعادة ماحدش هيتحرك حتى آخر نفس.. ساعتها بس يمكن أهلها يسيبوها فى حالها ويشوفولهم مكان تانى وحتى هذا الحين تظل مواهب القاهريين تتفجر يوما بعد الآخر وتظل القاهرة مزدحمة متعبة مخنوقة لكنها أيضا.. منورة بأهلها.