شبابنا والتنمية البشرية
الأب رفيق جريش
آخر تحديث:
السبت 4 يونيو 2022 - 7:30 م
بتوقيت القاهرة
لا شك أن التنمية البشرية والتى أصبحت موضة العصر فى أغلب الشركات والمؤسسات التعليمية والثقافية والعلمية وذلك بغية تنمية الإنسان بالخبرات وموضوعات جميلة وشيقة. بعض المدربين فى هذه المواضيع فى النوادى واجتماعات الشركات ومؤتمرات الشباب أحيانا يلبسون ثوب الحملان، فهى لها عدة مخاطر، وعلى كل المشرفين والمسئولين الانتباه لذلك خاصة أن هذه الكتب متوافرة فى المكتبات وكتابها خاصة الأجانب مشهورون فى هذا المجال.
مثال على ذلك تقنيات التنمية البشرية المتوافرة اليوم لتدريب وتقوية الذاكرة، إدارة الوقت، إدارة النزاعات، فنون التواصل، تنمية القدرات الدماغية، تنمية القدرات النفسية وأيضا قدرات التحكم فى قرارات الآخرين وإقناعهم والسيطرة عليهم، تنمية الموارد المالية، التنظيم الإدارى إلخ. مع الإشارة إلى أنه لا وجود لقدرات لامحدودة للإنسان كما يروج رواد التنمية ومدربو الحياة لأن الإنسان محدود فى طبيعته البشرية. ولكن هل تنمى هذه الإيجابيات فضيلة المحبة بمفهومها المسيحى؟ وما هى الأخطار التى قد نواجهها فى تقنيات التنمية البشرية؟
أولا: من انحرافات التنمية البشرية الممكنة، تنمية «الأنا»، الغرور والأنانية، والتمحور حول الذات. مع الاعتراف بالحق المشروع فى تنمية القدرات البشرية. لا شك أن تنمية القدرات الشخصية، يمكن أن تجعل العمل أكثر تنظيما وفاعلية. لكن يفصل بين شخصيْن، أحدهما اهتم بتنمية شخصيته وآخر لم تكن له قدرات بشرية كبيرة إلا أنه أحب كثيرا. الشخص الذى لم يحضر دورات فى البرمجة اللغوية العصبية، أو فى العلاج بحركات بؤبؤ العين، أو التحليل التفاعلى أو السوفرولوجى، لا شك أن لديه قلبا أكثر نموا من المتخرج فى العلوم الإنسانية والذى بقى، ويا للأسف، متمحورا حول ذاته وأنانيا. فى هذه الحال لا قيمة بتاتا لشهاداته. هذا لا يعنى أن نتخلى عن العلم والشهادات، لكن أن نعى خطورة الإنتفاخ والتمحور حول الذات.
أغلب المواضيع الأساسية فى التنمية البشرية تتمحور حول الذات: تهتم بالتعامل مع الانتقادات الموجهة نحو الذات، كيف تكون الأنا فى حالةٍ إيجابية لتكون أكثر سعادة، تهتم بكيفية إدارة المشاعر الذاتية، التعرف على الأدوار الممكن أن نلعبها فى الحياة، إدارة وقتنا، تحفيز وإثبات الذات، تنمية القدرات الذاتية، شفاء الذاكرة الذاتية، مسامحة الذات ومسامحة الآخر، المصالحة مع الماضى الشخصى، التعرف على الذات، محبة الذات، … لكن محورية الذات تشكل عائقا أمام الاتحاد بالآخر لأنها تغذى الأنانية والنرجسية. وهذا ينطبق أيضا على تقنيات التنمية التأملية المستوحاة من ديانات الشرق الأقصى.
فى وصفه لأهمية التأمل الصامت، يشير أوجوستين جييوران إلى أن مصدر حزننا هو فى تأملنا لذواتنا، بينما مصدر الفرح هو أن نوجه أنظارنا نحو الله لنفتكر بالله بدل أن نفتكر بذواتنا. يتبين لنا كيف أن محورية الذات فى تقنيات التنمية البشرية وتأمل حركات الأنا الداخلية، مصدرٌ أولى لتعاستنا. بينما السعادة الحقيقية هى فى الخروج من «الأنا» إلى «أنت» الله، لنتأمل جمال وجهه. «يا رب وجهك وحده ألتمس»!.
ثانيا: الاختزال الأنتولوجى الوجودى يُقصد بها أن تُختزل الأنا فى بُعد التنمية البشرية فقط. التنمية البشرية المتكاملة لا تهمل تنمية القدرات البشرية، لكن توضع فى إطار احترام الآخر والتعامل معه. إن التنمية البشرية المبالغ فيها تحجم الإنسان وتجعل منه مجردَ آلةٍ تعمل بشكلٍ جيد أو كائنا تكنولوجيا لامعا روحيا فى الظاهر. لكن لا يمكن اختزال الكائن البشرى فى تنمية بشرية فقط: يلزمه نموٌ متكامل يمر حتما عبر البعد الروحى ليُعيد موضعة الإنسان ككائنٍ بشرى مخلوق. إذن ضمن محدودية. لكن نظريات التنمية البشرية لا تأخذ بهذه المحدودية بل على العكس، تتكلم عن قدرات الإنسان اللامحدودة. هنا يكمن خطر «البلاجية» أى خطر الاعتماد على الجهد البشرى وإهمال عمل النعمة والخلاص المجانى المعطى بالصليب فى محاولة لخلق نوع من الكمال الوهمى. هكذا وهو يهتم بتنميته الشخصية، يكتفى بذاته ولا يعود بحاجة إلى أخر أكبر منه.
إن «التنمية البشرية المتكاملة» التى هى موضوع الإرشادات تتجنب هذا الاختزال الأنتولوجى، يعنى أن تختزل الإنسان فى الإنسان. فالإنسان المخلوق على صورة الله ومثاله، فالإنسان هو أسمى المخلوقات نفخ الله فى أنفه نسمة حياة من حياته، خلقه على صورته ومثاله وسلطه على الخلائق كلها. إنه كائنٌ مدعو لعيش مع ومن أجل الآخر.
صحيح أن التنمية البشرية جيدة، لكن تلك التى تُعطى الإنسان كينونته كابنٍ لله. إن التنمية البشرية المتكاملة ليست ممكنة بدون مرجعية الله الخالق. هكذا فالكائن المخلوق والمحبوب من الله، لا تكتمل بشريته إلا بقوة إيمان.