التحول الصامت
ساره راشد
آخر تحديث:
الأحد 4 يونيو 2023 - 8:40 م
بتوقيت القاهرة
تشهد البشرية تباينا كبيرا بين حوالى ٦ أجيال فى عصر شهد جائحة هى الأولى من نوعها فى الاتساع والشمول، وهى جائحة كورونا. لا نعرف من بدأ بالتحديد هذا التصنيف للأجيال المعاصرة، إلا أن لمركز أبحاث بيو السبق والجهد الكبير فى ذلك، وهو مركز أمريكى متخصص فى الدراسات الاجتماعية.
إليكم الأجيال الستة باختصار:
1ــ «الجيل الصامت» Silent generation (1928ــ1945)
2ــ «جيل البومر» وهم كبار السن ذوو الخبرة المحدودة بالتكنولوجيا Boomers (1946ــ1964)
3ــ «جيل إكس» Gen X (1965ــ1980)
4ــ «جيل الألفية أو جيل y « Millennials (1981ــ1997)
5ــ «جيل Z» ــ Gen Z (1998ــ2012)
6ــ وختاما جيل ألفا وهو جيل «أطفال اليوم» حتى عام 2025
• • •
كانت التكنولوجيا هى الملاذ الآمن للناس فى جميع تعاملاتهم فى فترة الجائحة العصيبة. وساهمت تطبيقات المحمول ومواقع التواصل الاجتماعى فى تصنيف الأجيال الستة وتحديدهم لاعتبارات كثيرة. إذ بدأت لدواعٍ تسويقية تتم من خلال الشبكة العنكبوتية، فيسهل تقديم الإعلان عن المنتج المناسب للشريحة العمرية المناسبة، إلا أنها أصبحت فى تزايد مستمر كما تزايد التباين بين الشرائح العمرية لتصبح محددة أكثر للصفات والأهداف والميول ونمط الحياة والأفكار أيضا.
أصبحت هذه التصنيفات أساسية داخل الشبكة بالطبع، فمعظم التطبيقات تشترط معرفة تاريخ الميلاد لمساعدتك بوضوح فى الحصول على ما يناسبك داخل الشبكة العملاقة. لكنها أيضا أساسية فى بيئة العمل التى لابد من تحديد شريحتك العمرية فيها لمعرفة ما ينطبق عليه ذلك من معرفة ميولك الشخصية وطباعك وأهدافك وطموحاتك ونظرتك للأمور. كما أنها أصبحت أساسية أيضا فى المجالات التى تحتاج لتحديد الجمهور المستهدف كمجال الدعاية والإعلان والكتابة الإبداعية وأيضا فى الأماكن الترفيهية.
ونتيجة لزيادة المحددات و«الفجوات» بين الأجيال أصبح لكل شريحة ميول واختيارات وأولويات وصفات مختلفة. إلى أن جاء «جيل الألفية» وتبعه «جيل Z» اللذان يشهدان تحولا رهيبا فى الأفكار. نظن فى مجتمعاتنا الشرقية المتحفظة أن التحول نابع من سرعة الاتصال والانفتاح على الثقافات الأخرى فحسب، ولكنها فى الحقيقة تحولات نابعة من مصدر آخر ربما أكثر خفاء.
ترصد مراكز أبحاث متخصصة فى المجتمعات الغربية بالإضافة إلى علماء وأطباء نفسيين ومفكرين وفلاسفة تلك التحولات الاجتماعية التى تحدث وتبحثها وتقيس مدى تأثيرها وانتشارها بين الأجيال الأصغر.
فنجد مثلا مقالا فى جريدة الباييس الأسبانية، الشهر الماضى، وتحديدا يوم ١٥ من مايو، يرصد رفض فكرة الزواج بالمعنى التقليدى وقبوله بأشكال مختلفة مثل الزواج المنفصل بدون معايشة حيث يرتبط الزوجان، ولكن دونما تعايش وتداخل فى التفاصيل الحياتية اليومية. لكل واحد مسكنه الخاص وحياته الخاصة التى لا يتدخل الآخر فيها.
تذكر إيسابيل فالديس فى مقالها أن هذه الفكرة نشأت فى الولايات المتحدة الأمريكية فى السبعينات تحت مسمى (LAT (living apart together أى أن نحيا معا منفصلين؛ ثم زاد عدد المقبلين على هذا النمط من الزواج بعد الجائحة بشكل كبير، وبدأ فى الانتشار أيضا فى أوروبا.
نجد أنماطا مختلفة أخرى مثل الزواج بدون إنجاب حتى دعا البابا فرنسيس شباب إيطاليا إلى إنجاب الأطفال بدلا من تربية الكلاب، وذلك لأن عدد الأطفال فى تناقص كبير وعدد المسنين كبير جدا بما يشكل خطرا على الشعب الإيطالى.
• • •
أصبحت هناك اختيارات متعددة لأنماط مختلفة من الحياة عمادها الثورة على النمط التقليدى عندما كان الزواج يعنى المشاركة والحب ويعنى العطاء. تغيرت النظرة للحب باعتباره شعورا قويا يدوم إلى اعتباره حالة من حالات الإعجاب ذات الأثر الممتد. إنهم يرصدون جيلا يسمح بتغيير كل شيء حتى فى العلاقات الإنسانية، جيل تتسع نفسه لإنهاء العلاقات بسهولة مثلما تتاح له الفرصة أن يبدأها بسهولة.
إن التعامل مع تطبيقات مثل( تندر) جعلت العزوف عن الفكرة التقليدية للزواج والبحث عن شركاء يدعمون الأفكار الجديدة أمرا فى غاية السهولة.
ولكن لماذا تهمنا الأفكار الجديدة إذا عكستها مرآة الزواج؟ ذلك لأنه منشأ الأسرة، فالامتناع عن الإنجاب فيه إلغاء لفكرة الأسرة. والتسرع فى إنهائه بالطلاق تمزيق للأسرة وتغييره عن سنته وفطرته التى فطر الله الناس عليها وفيه هدم للأسرة وبالتالى للمجتمع.
الزواج أيضا مرآة تعكس التأثير الاقتصادى على الإنسان، وتأثير الحركات النسوية على المرأة، وتأثير التكنولوجيا على تغيير أولويات الإنسان، وتأثيرها على طباعه الشخصية ومشاعره. وكثير من تلك المؤثرات لها جذور عميقة وشهدت مراحل من التحول شيئا فشيئا.
اليوم يرصد الغرب ظاهرة الزوجة التى ترفض مبدأ الزواج التقليدى خوفا من أن تصبح ممرضة لزوج مسن إذا بلغت السبعين من عمرها. وتفضل الزواج بدون مشاركة أو مسئوليات وبدون اعتماد لطرف على الآخر.
البعض قد يرجع السبب إلى طابع الفردية والأنانية الذى أصبح سمة عامة فى الأجيال الجديدة. فى رأيى أننا فى هذا العصر ــ الذى شهد الجائحة ــ نشهد جائحة أخرى خفية تحدث تحولا صامتا... هى حالة من اعتلال الصحة النفسية التى أصبحت تسرى بين الناس وتهاجم وتفتك دونما استئذان.
تبدو الأفكار الجديدة عن الزواج فى ظاهرها تمردا وثورة على الشكل التقليدى البائس فى نظر البعض، وبحثا عن التجديد وبالطبع عن السعادة والنجاح فى الحياة، إلا أن الملاحظ أن باطن ذلك كله هو شعور واحد حزين (الخوف)!
ترفض الفتاة الزواج خوفا على استقلالها المادى ويرفض الشاب الإنجاب خوفا على طموحه ومستقبله من أطفال يكبلونه ويطالبونه بالإنفاق عليهم. هكذا تدب فينا الجائحة الصامتة.
إن ما يحدث فى الغرب غالبا هو ما سنشهده فى مجتمعاتنا بعد فترة من الزمن طالت أم قصرت. فهل نحن بصدد اختفاء لقيم جميلة مثل الوفاء والعطاء والحب بالمعنى الذى نعرفه ليحل محلها معان جديدة تناسب الحياة الحديثة، وتحبس قيمنا الجميلة داخل القصص المأثورة وحكايات الأجيال السابقة؟
• • •
لن تصمد أبدا فكرة منبعها الخوف ولن تثمر أبدا.
إذا أثرت التكنولوجيا على الأجيال وتصنيفهم؛ فإنها لن تجعل من تلك التصنيفات حواجز فيما بين الأجيال بعضهم البعض؛ إلا إذا حبس الخوف كل منهم داخل نفسه.
لا تتسع زاوية النظر للإنسان الحبيس داخل نفسه ليرى ببصيرته الامتنان الذى يكنه أبناء وبنات لأمهم التى بذلت وأعطت، ولا يرى إلا مشهدا ظاهريا لخسارة طرف من أجل أن يكسب الآخر.
لا يتسع قلب ذلك الحبيس داخل نفسه ليعرف أن الله قادر على أن يخلق بين جوانحه مشاعر أثمن وأغلى من متعة الطموح ونشوة النجاح، وأنه سيدخرها فقط للأجيال الأصغر الذين لم يتصور أن ما ينفعهم سيقدمه فى يوم من الأيام على منفعته هو.
مازال لدينا الفرصة ــ جيل إكس وجيل الألفية ــ لنحيى ما فينا من معان جميلة لكى يراها أبناؤنا وبناتنا قصصا حية يعيشونها فيربون أبناءهم وبناتهم على معان صادقة نابعة من مصدر ثقة وأمن لا خوف فيه ولا حزن.
بالفعل تواجهنا تحديات كثيرة ونواجه فى الحياة إخفاقات وإحباطات؛ ولكن ذاك الذى تنال منه الصعاب والتحديات وتخجله إخفاقاته فلا يتصالح معها ويعترف بها ويتخفى وراء الشعارات وينسى أننا كلنا بشر هو أيضا حبيس داخل نفسه...
ولنتذكر دوما أننا إذا تعلمنا من الكبار شيئا فإن الصغار الذين يحتاجون إلينا إنما جاءوا أيضا ليعلمونا الكثير عن أنفسنا.
ملحوظة: الرابط الخاص بمركز أبحاث بيو للدراسات الاجتماعية:
https://www.pewresearch.org/shortــreads/2019/01/17/whereــmillennialsــendــandــgenerationــzــbegins
للدخول على الرابط، برجاء زيارة موقع الجريدة الإلكترونى.
مترجمة وكاتبة مستقلة