قضية مياه النيل.. بين التشدد الأفريقى واللامبالاة المصرية

فاروق جويدة
فاروق جويدة

آخر تحديث: الأحد 4 يوليه 2010 - 10:25 ص بتوقيت القاهرة

 تنتابنى حالة من الخوف الشديد فى الفترة الأخيرة بسبب قضية مياه النيل والصراع المعلن بين دول المنبع ودول المصب.. هناك مؤشرات كثيرة تحمل المزيد من المخاوف والمخاطر لأن دائرة الخلافات تتسع ودول المصب تندفع نحو مستقبل غامض مجهول لا يعرف أحد مداه..
إن التصريحات التى تحملها وسائل الإعلام فى هذه الدول خاصة إثيوبيا تعكس مواقف غريبة وجديدة تحمل الكثير من التساؤلات عن أسباب ذلك كله وهل هناك أياد خفية تحرك هذا الشعور الطاغى ضد مصر والسودان.. وما مبررات ذلك كله؟


إن هناك سجلات طويلة من العلاقات الطيبة التى امتدت سنوات طويلة بين دول حوض النيل سواء كانت دول المنبع أم دول المصب.. وهناك روابط وثيقة ربما كان النيل أقدمها وأقواها وأكثرها تأثيرا.. ولكن الغريب فى الأمر هذا التحول الخطير فى مسيرة هذه العلاقات والتى توشك أن تصل إلى طريق مسدود أمام اتفاقات واستقطابات ومحاولات فرض سياسة الأمر الواقع دون النظر إلى أى حقوق أو حقائق تاريخية.لقد شهدت الفترة الأخيرة عمليات تصعيد يبدو أنها مقصودة .. وبدأت الصحافة العالمية تناقش قضية مياه النيل على أنها واحدة من أكثر القضايا سخونة والتى تهدد الأمن والاستقرار فى أفريقيا.

فى دول المنبع عمليات تصعيد إعلامى وسياسى فلم يكتفِ المسئولون فى هذه الدول بالتصريحات الصحفية أو الأحاديث التليفزيونية التى تنتقد الموقف المصرى وتتهمه بالأنانية وسوء التقدير ولكن على المستوى السياسى والاقتصادى هناك إجراءات اتخذتها حكومات هذه الدول تؤكد أن سياسة الأمر الواقع هى الطريق الذى اختارته هذه الحكومات. على جانب آخر، فإن ردود الفعل على الجانب المصرى تتسم بالهدوء الشديد الذى يصل أحيانا إلى درجة اللامبالاة أمام ثقة زائدة فى أن الأمور ما زالت فى يد القرار المصرى رغم كل ما حدث.

إذا كانت دول المنبع تبنى مواقفها على أسس من الواقع لأن المياه تأتى من أراضيها ولأن الأمطار تسقط على جبالها فإن الموقف المصرى لا يقوم على أسس من الواقع أكثر من مجموعة اتفاقيات دولية قديمة يرى البعض أنها لن تغير كثيرا من الأمر الواقع الذى تسعى دول المنبع إلى فرضه على الجميع بما فى ذلك المجتمع الدولى.

إن دول المنبع تبنى معظم حساباتها على الأمر الواقع، بينما نبنى نحن حساباتنا على الأوراق والاتفاقيات واللوائح.. وفى تقديرى أن الموقف المصرى والسوادنى تنقصهما أشياء كثيرة وكان ينبغى أن يبدأ ذلك الآن.

لابد أن تشعر هذه الدول بخطورة ما تقوم به وأن الأمر يمثل تهديدا لا يمكن السكوت عليه لأن مياه النيل تحكمها اتفاقيات تاريخية ملزمة.. وإذا كان الواقع الجغرافى والمناخى يعطى هذه الدول أمرا واقعا ملزما فإن مجرى النهر الذى يعبر من آلاف السنين أرض السودان ومصر يمثل واقعا جغرافيا وتاريخيا ملزما لهذه الدول.

إذا كانت هذه الدول تمتلك الأرض التى تسقط عليها الأمطار فإن دول المصب تملك الأرض التى يجرى النيل فيها.. إن هذا يشبه القلب الذى يضخ الدماء فى الشرايين لكى يعيش الإنسان.. لا قيمة للقلب بدون الشرايين التى تنتشر فى الجسد كله.لابد أن تشعر هذه الدول بخطورة ما تفعل، ولا أدرى ما هى الوسائل التى يمكن أن تحمل هذه الرسائل لشعوب هذه المنطقة وحكامها والمسئولين فيها من أصحاب القرار.

إن الواضح أن هناك حملة طويلة لم نكن على علم بها سبقت قرارات ومواقف هذه الدول.. الحملة غيرت الكثير من مفاهيم الشعوب فى هذه المنطقة ومواقفها ومشاعرها تجاه مصر والسودان. إن الواضح أن شعوب دول المنبع قد غيرت أفكارها ومواقفها تجاه دول المصب.. هناك حالة من عدم التعاطف مع مصر والسودان وربما سبق ذلك حملة تمهيد واسعة سبقت قرارات الحكومات على المستوى الشعبى وقد ساعدت على ذلك عوامل كثيرة.

إن العلاقات بيننا وبين هذه الشعوب قد شهدت مراحل فتور طويلة تقطعت فيها جسور التواصل والمودة.. كانت هناك علاقات تاريخية على المستوى السياسى والاقتصادى والدينى والثقافى.لقد نسينا العلاقات القوية التى كانت تربط الزعيم الراحل جمال عبدالناصر وإمبراطور الحبشة هيلاسلاسى وزياراته السنوية لمصر والحفاوة التى كان يلقاها على ضفاف النيل.

لقد نسينا العلاقات الدينية التاريخية بين الكنيسة القبطية فى إثيوبيا والكنيسة المصرية قبل انفصالهما.. لقد تراجعت هذه العلاقات فى كل صورها ابتداء بالزيارات الرسمية وتبادل الوفود وانتهاء بالمشاركة فى المناسبات الدينية المشتركة.

لقد نسينا دور الأزهر الشريف وبعثاته وقراء القرآن الكريم فيه وهم يطوفون هذه المناطق ويؤكدون العلاقات التاريخية القديمة.كانت مدينة البعوث الإسلامية تضم آلاف الطلاب الذين يدرسون فى جامعة الأزهر من شباب هذه الدول ويعودون كل عام إلى بلادهم يحملون أجمل الذكريات عن مصر هبة نيلهم الخالد.

لقد أغلقنا شركة النصر للتصدير والاستيراد والتى كانت تنتشر فى كل دول أفريقيا بما فيها دول المنبع وقد شهدت هذه الدول علاقات اقتصادية قوية مع مصر.. ولا أحد يعرف لماذا اختفى الوجود المصرى فى هذه الدول ومن هو العبقرى الذى أصدر قرارات تصفية هذه الشركة العملاقة فى كل دول أفريقيا.

لقد نسينا عشرات الوفود التى كانت تسافر إلى هذه الدول وتشارك فى المؤتمرات والمهرجانات واللقاءات فى كل جوانب الأنشطة السياسية والثقافية والاجتماعية.. لقد أغلقت مصر تماما بوابتها نحو أفريقيا لأسباب مجهولة وهى الآن تدفع ثمن ذلك كله فى هذه الأزمات المتلاحقة التى تطاردنا من كل جانب.

إن هناك أخطارا أخرى قادمة غير تلك الأخطاء التى ارتكبناها فى سنوات مضت.. إن ملف جنوب السودان من أكبر هذه المخاطر التى تهدد قضية مياه النيل سواء لمصر أو السودان.. إن جهابذة الأفكار المريضة فى مصر والسودان للأسف الشديد يرحبون باستقلال جنوب السودان وإعلانه دولة مستقلة وينسى هؤلاء أن تقسيم السودان سوف يضاعف من مخاطر قضية مياه النيل فى السنوات القادمة.. إن وجود دولة كاملة السيادة بين دول الشمال ودول الجنوب.. وهذه الدولة سوف تحكمها روابط عرقية ودينية وتاريخية بدول المنبع ستكون أكثر ولاء حرصا على انتمائها للجنوب لأن مصالحها الأقرب مع دول المنبع وليس دول المصب.

إن الأخطر من ذلك كله ما أشار إليه الزعيم السودانى السيد الصادق المهدى أخيرا فى ندوة أقامها فى الخرطوم حول قضية مياه النيل وأشار فيها إلى أن اتفاق توزيع الثروة فى السودان بين الشمال والجنوب لم يشمل مياه النيل.. وهذا يعنى أن قضية توزيع مياه النيل بين الشمال والجنوب ستبقى ملفـا مفتوحا بين شمال السودان وجنوبه فى السنوات القادمة.. وسوف يكون من مصلحة الجنوب بعد استقلاله أن ينضم إلى دول المنبع فى قضية توزيع المياه؛ فهى الأقرب والأقدر على أن تمنحه ما يريد.

لقد ثار غبار كثيف فى الأيام الأخيرة بين القاهرة والخرطوم حول تصريحات أدلى بها وزير خارجية السودان الجديد حول غياب دور مصر فى قضايا السودان ولاشك أن تصريحات الوزير السودانى فيها الكثير من الحقيقة خاصة ما يتعلق بقضايا تقسيم السودان وهذا المستقبل الغامض الذى ينتظره فى ظل قيام دولة مستقلة فى الجنوب وأخرى فى دارفور..

سوف يتم تقسيم السودان بعد شهور قليلة مع مطلع العام القادم ولا شك أن هذا التقسيم سوف يحمل الكثير من المخاطر لملف مياه النيل.. فى مصر والسودان تيارات تخفف كثيرا من عبء هذا التقسيم بل وتبارك آثاره، رغم أنه يحمل دلالات كثيرة خطيرة، خاصة أنه يتم فى ظل تهديدات لمستقبل المياه فى مصر والسودان.. لقد بدأت كارثة ملف مياه النيل من جنوب السودان منذ أكثر من عشرين عاما حين اشتعلت الحرب الأهلية بين أبناء الشعب الواحد ولعبت أطراف دولية كثيرة أدوارا مشبوهة فى هذه المعارك وصلت بالسودان إلى ما نراه الآن من مشاكل وانقسامات ومستقبل يهدد وحدته.

لقد تأخرت مصر كثيرا فى مواقفها تجاه السودان وملف مياه النيل وعلاقاتها بدول المنبع.. لقد تأخرت ربع قرن من الزمان وربما أكثر.. واكتفينا بعلاقات دفعنا ثمنها ولم نجنِ منها شيئا غير المتاعب والأزمات.

مازلنا ننظر شمالا حيث تتزاحم الوفود كل يوم للسفر إلى دول أوروبا وتحولت أفريقيا فى نظر المسئولين وأصحاب القرار إلى عبء طويل ومحنة دائمة لكل من يسافر إليها.. كان السباق نحو الشمال هو شغلنا الشاغل ابتداء بالصفقات والمشتريات وانتهاء بعمولات شركات السيارات والبترول والخدمات.

لقد تجاهلنا دول أفريقيا سياسيا وثقافيا وحضاريا ولا نعرف الآن من أين نبدأ معها.. نحن أمام حكومات تقول إنها تدافع عن مصالح شعوبها.. وشعوب لا تعرف شيئا عنا خاصة أجيالها الجديدة التى لا تذكر من الماضى شيئا.. إنهم يقولون أنتم تبيعون البترول فلماذا لا نبيع المياه وهناك من يرغب فى شرائها منا.. إن إسرائيل تعرض دائما شراء المياه من إثيوبيا من خلال خطوط أنابيب عبر البحر الأحمر، كما أنها تعرض شراء المياه من تركيا عبر خطوط أنابيب فى البحر الأبيض المتوسط.. فإذا كانت الدول تشترى البترول والغاز وتنقله عبر خطوط الأنابيب فلماذا لا تبيع دول المنبع مياه الأمطار ولديها من يشترى الماء بأعلى الأسعار؟
إن القضية الآن تدخل مناطق كثيرة وتزداد الأزمة تعقيدا.. والمطلوب منا أن تكون مواقفنا أكثر تفهما وأكثر حسما.

نقطة البداية ألا نتعامل مع الأزمة بهذا التراخى وعدم اللامبالاة خاصة فى تصريحات المسئولين عندنا.. أحيانـا أسمع واقرأ تصريحات للمسئولين فى الرى والخارجية واشعر أننا أمام أزمة عابرة وخصومة يمكن أن تنتهى فى لقاء عابر رغم أن الكارثة أكبر من ذلك بكثير..
ألا نتعامل مع القضية من خلال وسائل الإعلام سواء من جانب دول المنبع أو من جانبنا أن القضية تحتاج إلى حوار على أعلى مستويات القرار.. وقد اقترحت إنشاء مؤسسة جديدة تخضع لرئاسة الجمهورية إداريا حتى ولو كانت وزارة مستقلة لشئون أفريقيا وحوض النيل.

لابد من توسيع دائرة التواصل بين دول حوض النيل.. وهناك دول تربطنا بها علاقات خاصة وعميقة.. ولا مانع من دراسة ملف مياه النيل مع أطراف إقليمية مجاورة مثل إريتريا والصومال وجيبوتى لأن هذه أوراق لم تلعبها مصر بعد ويجب أن نضعها فى الاعتبار حتى وإن كانت ظروفها الداخلية تمنعها من القيام بدور ما فى الحاضر فإن أدوارها قادمة.. إن ملف مياه النيل طويل الأجل ويحتاج إلى نفس طويل ويجب أن تكون هناك أولوية خاصة لجنوب السودان سواء بقى موحدا أو دخل دائرة التقسيم وإن كان العقلاء فى البلدين مصر والسودان يتمنون لو بقى السودان دولة واحدة..

لأن تقسيم السودان يمكن أن يكون نقطة البداية لأزمات أكبر.لا بد أن تعيد مصر مواقعها القديمة فى دول حوض النيل.. إن ذلك لا يمكن أن يتحقق فى وقت قصير ولكن المهم أن نبدأ خاصة أن وقت الأزمة يمكن أن يطول لأن المياه لن تتوقف بين يوم وليلة.. إن نقص مياه النيل سوف يستغرق سنوات وفى هذا الوقت تستطيع مصر أن تغير حسابات كثيرة على المستوى السياسى والاقتصادى والجغرافى.

تستطيع مصر أن تغير الخريطة السياسية بما يضمن مصالحها وتعيد ترتيب الأولويات والأدوار والمصالح.. يجب أن تتجه عيون مصر جنوبا إلى السودان وجنوب السودان ودول حوض النيل.. يجب أن ندرك أن الاتجاه شمالا جعلنا نفرط فى أشياء كثيرة دفعنا ثمنا وسوف ندفع أثمانا أكثر فى المستقبل.

يجب أن تعود العلاقات الاقتصادية مع هذه الدول بحيث تصبح مصر عاملا مؤثرا فى حياة هذه الشعوب ومستقبلها بما يحقق مصالح الطرفين هناك صراعات اقتصادية عنيفة وحادة بين القوى الاقتصادية فى هذه المنطقة..

إن الصين تحاول أن تمد نفوذها وقد نجحت فى ذلك كثيرا أمام سلع رخيصة وعمالة مدربة وخبرات تبيعها بأرخص الأثمان.

إن الهند لديها مطامع كثيرة فى دول الخليج وشرق أفريقيا وهى قادرة على أن توجد بشريا واقتصاديا وسياسيا فى هذه الدول من خلال إمكانياتها وتقدمها العلمى.إن إسرائيل تسعى لتأكيد وجودها فى البحر الأحمر ولديها استعداد لأن تفعل أى شىء فى سبيل ذلك كما أن لها رصيدا ضخما من العلاقات مع دول شرق أفريقيا خاصة إثيوبيا وكينيا وأوغندا والكونغو.

تستطيع دول الخليج العربى أن تبنى جسورا قوية مع هذه الدول خاصة أن المسافات بين هذه الدول والساحل الأفريقى قصيرة جدا ولابد من التنسيق بين هذه الدول والدور المصرى السودانى بما يخدم مصالح جميع الأطراف.

هناك مشروعات كثيرة يمكن التعاون فيها وفى مقدمتها الزراعة والتكنولوجيا المتقدمة والتدريب والاتصالات والطرق والكهرباء والنقل ومشروعات الرى.. إن الوجود المصرى فى هذه الدول هو أفضل الوسائل لتغيير هذا المناخ الفاسد الذى أفسد العلاقات بين أبناء حوض النيل مصبا ومنبعا..

لقد ألقت دول المنبع بالقفاز فى وجه دول المصب واستطاعت فى أيام قليلة أن تضع العالم كله أمام حقائق جديدة وفى تقديرى أن الموقف كان يحتاج إلى ردود أفعال تتناسب مع خطورة ما حدث.. ليس معنى ذلك أن نعلن الحرب ونرسل القوات العسكرية لأن ذلك أمر غير وارد ولكن يجب أن نستخدم كل أساليب الضغط ولدينا أوراق كثيرة يمكن أن نستخدمها.. لدينا الأموال العربية التى يتم استثمارها فى المشروعات الزراعية.. ولدينا قناة السويس وهى ورقة قد يرى البعض استحالة دخولها فى هذه الحسابات أمام التزامات دولية تفرض المرور فيها.. ولكن حين يتعلق الأمر بالحياة أو الموت فلا مجال لحديث عن التزامات حتى لو كانت دولية.

لقد أطاحت دول المنبع بالكثير من الالتزامات.. إن دول هذه المنطقة جميعها لا يمكن لها الاستغناء عن قناة السويس بما فى ذلك دول كبرى مثل الصين والهند فما بالك بدول شرق أفريقيا..لا ينبغى أن نترك الزمن يسرقنا فى قضية مياه النيل حتى لا نجد أنفسنا أمام حسابات جديدة.. المهم فى ذلك كله أن نطمئن تماما إلى موقف السودان لكى يكون القرار واحدا.

إن التحرك السريع مطلوب الآن وليس غدا؛ لأن دول المنبع خاصة إثيوبيا التى تريد أن تفرض واقعا جديدا وعلاقات جديدة فى ظل حسابات تحقق مصالحها حتى ولو تعارضت هذه المصالح مع أمن واستقرار مصر والسودان.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved