علامة استفهام حول مستقبل مسيحيى الشرق
محمد السماك
آخر تحديث:
الأحد 4 يوليه 2010 - 10:40 ص
بتوقيت القاهرة
دعا البابا بنديكت السادس عشر إلى مؤتمر (سينودس) حول مستقبل مسيحيى الشرق الأوسط. سيُعقد المؤتمر برئاسة البابا فى الفاتيكان يوم العاشر من أكتوبر المقبل ويستمر ثلاثة أسابيع. وقد دعا إليه بطاركة الكاثوليك فى الشرق، وممثلين عن الكنائس المختلفة الأخرى، الأرثوذكسية والإنجيلية والسريانية.فما هى قضية مسيحيى الشرق؟ وما هى أهداف هذا المؤتمر؟ وكيف وأين تقف دول المنطقة من هذه المبادرة؟.
لا بد قبل الإجابة عن هذه التساؤلات من الإشارة إلى أن الفاتيكان سبق أن نظم مؤتمرات حول مسيحيى آسيا، وحول مسيحيى أفريقيا. ونظم مؤتمرا خاصا حول مسيحيى لبنان. وقد جرت كل هذه المؤتمرات فى عهد البابا الراحل يوحنا بولس الثانى. أما المؤتمر المقبل فسيكون الأول فى عهد البابا الحالى.
فى الأساس يشكو مسيحيو الشرق الأوسط ويعانون عددا من القضايا أهمها:
الانعكاسات السلبية الاجتماعية والاقتصادية لاستمرار الصراع العربى ــ الإسرائيلى.
الانعكاسات السلبية لظاهرة تصاعد التطرف والغلو الدينى بما ينعكس سلبا على المسيحيين فى بعض المجتمعات المحلية.
تكرار الاعتداءات على مسيحيى العراق على خلفية دينية رغم أنهم ليسوا جزءا من لعبة الصراع على السلطة سواء بين السنة والشيعة، أو بين العرب والأكراد والتركمان.توالى المشكلات المحلية ذات البعد الطائفى فى مصر بين مسلمين وأقباط، خصوصا فى قرى الصعيد (نجع حمادى مثلا).
الانعكاسات السلبية لحركة «المسيحانية الصهيونية» فى الولايات المتحدة المؤيدة لإسرائيل، على صورة المسيحية عند مسلمى الشرق.لممارسات العنصرية الإسرائيلية التى تستهدف الفلسطينيين فى القدس خاصة التى تشمل المسيحيين منهم فى مؤسساتهم الدينية والتعليمية
أدت هذه القضايا إلى أسوأ ظاهرة يواجهها مسيحيو الشرق الأوسط، وهى الهجرة الواسعة من بلدانهم إلى الولايات المتحدة وكندا، وإلى أستراليا، وأمريكا الجنوبية. وتتمثل هذه الظاهرة فى التراجع الحاد فى عدد مسيحيى دول المنطقة، الأمر الذى بات يشكل خطرا على النسيج الوطنى الذى عرف بها، وعرفت به، منذ بداية العلاقات الإسلامية ــ المسيحية قبل أكثر من ألف عام.
من أجل ذلك يتطلع المسيحيون العرب باهتمام كبير إلى السينودس المقبل. إلا أن هذا الاهتمام يصطدم بحالة التردى التى يمرّ بها مجلس كنائس الشرق الأوسط. فالمجلس أسس منذ قيامه لعلاقات إسلامية ــ مسيحية من خلال فك الارتباط أولا بين المسيحية والغرب.. وثانيا بين المسيحية والحركة المسيحانية الصهيونية الأمريكية.
وثالثا من خلال التأكيد على الهوية العربية للمسيحيين فى المنطقة وانتماءاتهم الوطنية.
فالمسيحيون العرب الذين كانوا ضحايا حروب الفرنجة ــ الحروب الصليبية ــ كانوا أيضا رواد النهضة العربية الحديثة والذين حافظوا على اللغة العربية. كما كانوا فى مقدمة المناضلين ضد الاستعمار وبناء الدولة الوطنية الحديثة. وقد عانوا كالمسلمين من جراء الاحتلال الإسرائيلى وقاوموا مع الفلسطينيين المسلمين أيضا الاعتداءات الاسرائيلية منذ قيام إسرائيل فى عام 1948 حتى اليوم.
كذلك فإن المسيحيين العرب، ومن خلال مجلس كنائس الشرق الأوسط رفعوا الصوت عاليا ضد الحركة الصهيونية المسيحانية ونددوا بها واعتبروها مناهضة ليس فقط للحق العربى فى فلسطين، إنما للعقيدة المسيحية فى الدرجة الأولى. ولقد صدرت عن مجلس كنائس الشرق الأوسط بيانات بهذا المعنى منذ الثمانينيات من القرن الماضى.
ولعل آخر هذه المواقف القومية المبدئية القائمة على اللاهوت المسيحى هو الموقف الذى أعلنه مسيحيون فلسطينيون من مختلف الكنائس فى القدس حيث طالبوا كنائس العالم ــ بما فيها الفاتيكان ــ اعتبار الاحتلال الإسرائيلى إثما وخطيئة بحق الله والدين والإنسانية، لا يجوز تغطيته أو تبريره لاهوتيا بأى شكل من الأشكال. وتجرى الآن محاولة لحمل مجلس الكنائس العالمى فى جنيف وغيره من المؤسسات الكنسية الدولية لتبنى هذا الموقف اللاهوتى واعتباره أساسا للتصدى للاحتلال الإسرائيلى.
غير أنه فى الوقت الذى تجرى فيه الاستعدادات على قدم وساق لعقد مؤتمر الفاتيكان، يمر مجلس كنائس الشرق الأوسط فى أسوأ مرحلة منذ قيامه فى عام 1974.
فالبابا بنديكتوس السادس عشر، وفى ضوء التقارير التى أعدتها السفارات البابوية فى المنطقة، والتقارير التى بعثت بها إليه المراجع الكنسية الكاثوليكية العربية، وجد أن المسيحيين يمرون بظروف صعبة ومعقدة تتطلب درسا عميقا وتحتاج إلى معالجات مع الكنائس ومع المراجع الحكومية والمجتمعات المحلية سواء بسواء. من هنا فإنه لو لم يكن هناك مجلس يجمع بين هذه الكنائس لكان من الضرورى إيجاده ليعبر عن الصوت الواحد فى معالجة هذه المشكلات.
لقد كان طبيعيا أن يشارك المجلس فى الإعداد لهذا المؤتمر ــ السينودس ــ باعتبار أن المجلس يضم كل كنائس المنطقة من الكاثوليكية والمارونية والأرثوذكسية والسريانية والقبطية والأرمينية، وعددها 27 كنيسة مختلفة. ونظرا لصفته التمثيلية للمسيحيين فى المنطقة فإن دوره يعتبر أساسيا ومحوريا. غير أن المجلس يواجه انقسامات داخلية أدّت إلى تعطيل هذا الدور.
لا تتعلق هذه الانقسامات بقضايا لاهوتية دينية ولا بقضايا سياسية عامة، ولكنها تتعلق بخلافات ثنائية بين بطريرك الكنيسة الأرثوذكسية اليونانية فى القدس ثيوفوليس الثالث، والبابا شنودة الثالث بابا الأقباط فى مصر. فالبطريرك ثيوفوليس هو البطريرك غير العربى الوحيد الذى يمثل طائفة مسيحية كبيرة فى القدس. والمشكلة ليست فى يونانيته، أو فى لا عروبته، ولكن المشكلة تكمن فى أنه مثل سلفه، باع السلطات الإسرائيلية وأجّر مؤسسات ومنظمات يهودية عقارات وقفية تملكها الكنيسة، الأمر الذى فجر ثورة غضب واستنكار فى أوساط المسيحيين العرب الأرثوذكس داخل الأرض المحتلة وخارجها.
أما البابا شنودة فقد التزم منذ احتلال إسرائيل لمدينة القدس فى يوليو من عام 1967 بموقف دينى ــ أخلاقى ــ وطنى منع بموجبه رعايا الكنيسة القبطية من الحج إلى القدس إلا بعد تحريرها من الاحتلال. ويستند البابا شنودة فى موقفه من الخلاف مع البطريرك ثيوفوليس، فوق ذلك، إلى أن المسيحيين الأقباط يشكلون تقريبا نصف مسيحيى الشرق الأوسط.
انفجر الخلاف بين الكنيستين القبطية والأرثوذكسية ــ اليونانية خلال مؤتمر عقده مجلس كنائس الشرق الأوسط فى عمان فى 19 أبريل الماضى. فخلال المؤتمر تعرّض البطريرك ثيوفوليس إلى الكنيسة القبطية بكلام اعتبره ممثلها أمين عام المجلس الدكتور جرجس صالح مسيئا وظالما. طلبت الكنيسة من البطريرك أن يعتذر، ولكنه رفض بحجة أنه لم يقل ما يسىء إلى الكنيسة أو إلى البابا شنودة، وأنه بالتالى ليس مستعدا للتراجع عن كلام لم يقله أساسا.. إلا أن الكنيسة القبطية أصرّت على موقفها. وأصرّ البطريرك على رفضه، فكان قرار البابا شنودة بانسحاب الكنيسة القبطية من المجلس. وهى سابقة لم تحدث من قبل. وكان الأنبا صموئيل ممثل الكنيسة القبطية أحد مؤسسى المجلس، إلا أنه قُتل أثناء حادث المنصة فى القاهرة فى عام 1982 والذى استهدف الرئيس المصرى الراحل أنور السادات. ومما زاد الطين بلة، أنه عندما علم البطريرك ثيوفوليس بالأمر علق عليه قائلا: «لم يضغط أحد على البابا شنودة للانسحاب من المجلس.. ولن يضغط عليه أحد للعودة إليه. لقد تحول مجلس الكنائس إلى ناد للمنتفعين، وحان الوقت لتخليصه من هذه الحالة.. وإعادته إلى دوره الأساس»!!.
وبذلك يكون البطريرك اليونانى قد عمم اتهامه بحيث شمل الكنائس الأخرى ولو لم يسمّ أيا منها. أمام هذا الوضع، تضامنت مع الكنيسة القبطية كنيستان من كبرى الكنائس المنضوية فى المجلس وهما الكنيسة السريانية التى يترأسها البطريرك عيواص (ومقره فى دمشق)، والكنيسة الأرثوذكسية الأرمنية التى يترأسها الكاثوليكوس آرام (ومقره فى بيروت ــ انطلياس).
وبتضامن هذه الكنائس الثلاث مع الأمين العام للمجلس الذى تنتهى ولايته قانونا فى عام 2011، أصبح المجلس فى حالة شلل تام. فالبطريرك اليونانى فى القدس الذى أثار غضب المسيحيين الأرثوذكس لبيعه عقارات وقفية إلى جمعيات يهودية استيطانية تسبّب فى ضرب وحدة مجلس كنائس الشرق الأوسط من خلال تعرضه إلى أحد أهم رؤسائه وهو البابا شنودة.
وهكذا عندما توجه البابا بنديكتوس السادس عشر إلى قبرص فى الشهر الماضى ــ وهى أول دولة أرثوذكسية يزورها البابا ــ لم يكن بين مستقبليه هناك، كما كان يفترض، الأمين العام للمجلس. ولم يتسلم منه نص الوثيقة التمهيدية لمؤتمر السينودس حول مسيحيى الشرق الأوسط التى سلمها البابا إلى رؤساء الكنائس الكاثوليكية فى المنطقة لدراستها تمهيدا لمناقشتها فى روما فى الخريف المقبل. فهل يساعد المؤتمر على فتح صفحة جديدة توفر المزيد من الاطمئنان والاستقرار لمسيحيى الشرق؟ وأى دور سيكون للمسلمين فى ذلك؟