الحفاظ على الدولة يرتبط بمكافحة الفساد
أسامة دياب
آخر تحديث:
الجمعة 4 يوليه 2014 - 8:40 ص
بتوقيت القاهرة
من آثار الفساد المعنوية التى يصعب قياسها تغيير الوظائف الطبيعية للدولة من أجل الاستحواذ على مصادر الدخل على حساب قيام الحكومة بدورها فى الإدارة العامة
لا أحد يحب الفساد على المستوى النظرى حتى مرتكبيه. تربينا على أن الفساد شىء سيئ السمعة، ولكن تجرعنا لهذه القيمة، التى أصبحت إنشائية أكثر منها فعلية، أثبت عدم فعاليته... فبالرغم من زعمنا كره الفساد على المستوى الإنشائى إلا أن الفساد ــ الكبير منه والصغير ــ مازال مستشريًا فى بلادنا. يظن الكثير من العاملين فى مجال مكافحة الفساد أن التسامح مع الفساد عادة ما يكون سببه صعوبة قياس تأثيره علينا وأن أغلب آثاره السلبية لا ترتبط فى أذهاننا به.
•••
أطلقت مؤسسة كارنيجى للسلام الدولى ورقة بحثية ناتجة عن ورشة عمل كنت قد شاركت فيها ممثلا عن المبادرة المصرية للحقوق الشخصية تطرح تساؤلات عن تأثيرات الفساد السلبية غير المُحَسّة، حتى تستطيع الذهاب بمواجهة الفساد من الإدانة الإنشائية إلى الرفض الفعلى عند إدراكنا لآثاره السلبية التى لم نكن ندركها من قبل، ومنها تأثيرات الفساد على الأمن القومى للدول والأمن الدولى، وكيف يهيئ استشراء الفساد المناخ لفشل الدولة فى تقديم الخدمات الاجتماعية ونزع الشرعية منها، مما يشكل بيئة مواتية لظهور جماعات مسلحة تستطيع كسب تأييد قطاع من الناس بسبب غياب رعاية الدولة لهم، مما يؤدى إلى المزيد من فشل الدولة وغياب العدالة وانتشار العنف والإرهاب وانتهاكات حقوق الإنسان.
تشير منظمة الشفافية العالمية إلى أنه: «ليس من المرجح أن تحترم الحكومة الفاسدة التى ترفض الشفافية والمحاسبة حقوق الإنسان. وبناء عليه، فإن الحملة الهادفة لاحتواء الفساد والحركة التى تعمل من أجل تعزيز وحماية حقوق الإنسان ليست عمليات متباينة، ولكنها ترتبط ارتباطًا وثيقًا ومتشابكة».
كانت محاولاتنا لإثبات تلك العلاقة الطردية فى ورشة عمل كارنيجى التى ضمت خبراء وأصحاب مصلحة من مختلف مؤسسات المجتمع المدنى وممثلين عن الحكومات وقطاعات الأمن، بين الفساد الحاد و بين فشل الدولة وانتهاكات حقوق الإنسان بالأرقام والإحصاءات عملية مرهقة، وكذلك محاولة إيجاد روابط بين نظام الحكم البلوتوقراطى (حكم اللصوص) ومختلف أشكال انتهاكات حقوق الإنسان كتعذيب المتهمين والقتل خارج إطار القانون، وإثبات كميًا علاقة التعزيز المتبادل بينهما.
ولعملى فى مجال مكافحة الفساد فى إطار العمل الحقوقي، ولإيماننا بوجود تلك العلاقة الطردية، قمنا بمحاولات إثبات تلك العلاقة بمؤشرات كمية نستطيع من خلالها تصور حجم العلاقة، وقد قمنا باستخدام مؤشر منظمة الشفافية العالمية لقياس مؤشر إدراك الفساد فى مقابل مؤشر منظمة Fund for Peace عن انتهاكات حقوق الإنسان، وبالفعل وجدنا كما توقعنا علاقة طردية قوية بين المؤشرين (انظر الشكل 1) ومع تكرار التجربة مع مؤشرات أخرى كمؤشر سيادة القانون وفشل مؤسسات الدولة، وجدنا أيضًا وجودًا قويًّا لتلك العلاقة الطردية بين الفساد وانهيار سيادة القانون ومؤسسات الدولة. وتثبت هذه العلاقة أنه كلما زاد الفساد فى أى دولة، زاد معها انتهاكات حقوق الإنسان و العكس صحيح. من الممكن ــ ببعض المنطق ــ أن يدعى أحدهم أنه قد يكون هناك مسبب ثالث أو رابع، هو ما يؤسس لتلك العلاقة الطردية، وبالرغم من وجاهة تلك الحجة، إلا أن ذلك لا ينف أهمية العمل على تلك الملفات بالتوازي، بنظرة أكثر شمولية وعدم إعطاء أولوية لملف على حساب ملف آخر، لأنهم فى الأغلب لا يتحركون إلا معًا، فالعمل على مكافحة الفساد سيصب فى مصلحة الحق فى السلامة البدنية والعكس صحيح. وبالإضافة إلى تلك المؤشرات الكمية، فالمنطق الكيفى أيضا الذى تعبر عنه تلك الأرقام شديد الوجاهة، فالأنظمة الفاسدة المخترِقة للقانون والمواثيق الدولية، غالبًا ما تحمى نفسها عن طريق تطويع الدولة بمواردها ومؤسساتها والأجهزة الأمنية لحمايتها على حساب وظائف الدولة الأخرى من تقديم الخدمات الاجتماعية وتوفير الأمن لمواطنيها، ويحدث بدلًا من ذلك قمع لأى معارضة حقيقية أو إعلام حر، وغياب تطبيق عادل للقانون يخضع له الجميع، وانهيار مؤسسات الدولة وذهاب استقلاليتها أدراجَ الرياح وارتكاب أفظع الجرائم من أجل الحفاظ على المصالح الاقتصادية والهروب من المحاسبة.
•••
ما وراء المؤشرات
من المهم أن نذكِّر أنفسنا باستمرار، أنه خلف هذه البيانات والأرقام الجامدة معاناة إنسانية حقيقية، فالفساد الذى استشرى فى مصر فى العقود الأخيرة والذى تقدره منظمة النزاهة المالية العالمية بنحو 132 مليار دولار (أكثر من تريليون جنيه مصرى) فى الفترة ما بين 1980 و2010، ترك مصر وهى تعانى أعلى نسبة إصابة بفيروس سى فى العالم، ونحو نصف السكان يعيشون بين فقر و فقر مدقع مع وجود قطاع كبير من الناس لا يستطيع الحصول على مياه شرب نظيفة، بالإضافة إلى الحالة الرديئة للتعليم والصحة والخدمات الاجتماعية المختلفة.
وتؤكد منظمة النزاهة المالية العالمية أن تلك التقديرات من المرجح أن تكون متحفظة بسبب عدم توافر البيانات، خصوصًا القديم منها. ووفقًا لبيانات البنك الدولى فإن الـ 132 مليار دولار كانت كفيلة بأن تقدم تطعيمًا كاملًا لأكثر من أربعة مليارات طفل أو توفير وصلات مياه لـ 330 مليون منزل أو بناء 316800 كيلومتر من الطرق المرصوفة، المكونة من حارتين.
لكن التكلفة التنموية للفساد هى فى الواقع أكبر كثيرًا من تلك التقديرات الرقمية، فالتنمية والفساد لهما تأثير مضاعف على المجتمع، يتخطى قيمة المال المسروق وبالتالى يستحيل قياسه كميًّا.
ووصلت ورشة عمل كارنيجى إلى نتيجة، هى: أن من آثار الفساد المعنوية التى يصعب قياسها تغيير الوظائف الطبيعية للدولة من أجل الاستحواذ على مصادر الدخل على حساب قيام الحكومة بدورها فى الإدارة العامة، ويزيد الفساد فى الحكومة من فرص التعاون مع جماعات الجريمة المنظمة مما يكون له أبلغ الأثر على الأمن وسيادة القانون.
ويمثل كل هذا البيئة الحاضنة لانتهاكات حقوق الإنسان الأساسية وعلى رأسها الحق فى الحياة والسلامة البدنية. وتذهب ورقة كارنيجى إلى أن العلاقة الطردية بين تفشى الفساد وفشل مؤسسات الدولة وما يترتب على ذلك من تأثيرات على الأمن وظهور جماعات متمردة ومسلحة تعمل خارج إطار الدولة، يُلزم علينا التفكير فى مكافحة الفساد كأولوية لإيجاد حل أمنى مستدام، لا يجب أن تأتى أبدًا على حساب حلول أمنية قصيرة المدى.
•••
وأخيرًا، فإنه من الصعب على نظام ديكتاتورى فاسد فى دولة فقيرة أن يصمد بدون ارتكاب انتهاكات جسيمة فى حقوق الإنسان، مع مواجهة مطالب المواطنين فى العيش الكريم، وكلنا فى مصر نعيش يوميًّا آثار انتفاض قطاع عريض من المصريين ضد فساد نظام مبارك وانتهاك شرطته للحق الأصيل فى السلامة البدنية، وما خلفته من انتهاكات جسيمة لحقوق الإنسان مستمرة حتى اليوم. وكان من أهم أسباب ثورة 25 يناير هو الفساد المالى لنظام مبارك، وكان من أهم تجلياتها الانتفاضة ضد الشرطة التى قامت بدور سياسى فى حماية نظامٍ تم لفظه من الناس على حساب دورها المفترض فى الأمن الجنائى، وليس السياسي، وهو ما يدل على تشابك وترابط تلك الحقوق بعضها ببعض.
بالرغم من صعوبة قياس وتصور تأثيرات الفساد على الحياة اليومية، فلا شك أن تأثيراته جسيمة وتؤثر تأثيرًا مباشرًا بالسلب على الصحة والتعليم والمستوى الاقتصادى ومستوى الرفاهية لأغلب الواقعين تحت سيطرة حكمه. وبعكس الانتهاكات الجسدية المباشرة، لا يكون المجنى عليه فى قضايا الفساد واضحًا لعدم وجود علاقة جسدية مباشرة بينه وبين الجاني. فنهب المال العام نظريًّا هو انتهاك ضد جميع مواطنى الدولة ولذا يصعب قياس تأثيره. ولهذا السبب يجرى العمل على تطوير مؤشرات تضيف بعدًا كميًّا للفساد وتساعدنا على تصور تأثيراته غير المُدركة على حقوقنا كمواطنين فى دولنا بل على مستقبل دولنا ومجتمعاتنا ذاتها، وهذا أمر شديد الأهمية، ويعد بمثابة أداة جديدة للعاملين فى مجال مكافحة الفساد وحقوق الإنسان فى الحرب المقدسة ضد الفساد.