«عبء» الديمقراطية!
صحافة عربية
آخر تحديث:
الخميس 4 يوليه 2019 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الخليج مقالا للكاتب «عبدالحسين شعبان» وجاء فيه:
مثل عنوان الندوة الافتتاحية لموسم أصيلة الثقافى الدولى بالمغرب لهذا العام إشكالات الواقع والتحدى فى آن، بين «الديمقراطية الموعودة» و«الديمقراطية المفقودة»، خصوصا حين حمل سؤالا مكملا: «أين الخلاص؟» بعد أن وضع «عبء الديمقراطية الثقيل» فى الصدارة.
لم يحدث أن واجهت الديمقراطية بصفتها المعيارية أو الإجرائية، مأزقا مثلما تواجهه اليوم، فعلى مدى العقود الثلاثة ونيف الماضية يمكننى أن أستحضر كما هائلا من المشاركات والدراسات والأبحاث والمؤتمرات بشأنها، وأتوقف هنا عند ثلاثة محافل مهمة كان آخرها جلسة عصف فكرى «أكاديمى» نظمتها جامعة فينيسيا (إيطاليا) (مايو 2019) حول «مصادر الديمقراطية» وقبلها بعقد ونصف من الزمان، ندوة دولية جرى تنظيمها فى سيؤول (كوريا الجنوبية) خريف عام 2002، حول «آفاق الديمقراطية» بحضور وزيرة خارجية الولايات المتحدة مادلين أولبرايت، وذلك عشية غزو العراق، وسبقتها ندوة نظمها مركز دراسات الوحدة العربية فى قبرص (ليماسول) 1983 حول «أزمة الديمقراطية فى الوطن العربى».
ولم تكن الديمقراطية حينها، وخصوصا فى عالمنا العربى مطروحة على بساط البحث كخيار للحكم، خصوصا فى ظل هيمنة التيارات الأيديولوجية الشمولية آنذاك: القومية واليسارية والإسلامية. ولذلك يأتى «سؤال أصيلة»، بعد هذه السنوات، استفهاما مثيرا، فهل وصلت الديمقراطية إلى طريق مسدود؟ وهل ثمة أسلوب حكم آخر أفضل منها أو يتجاوزها؟
لقد اجتاحت الموجة الديمقراطية آخر ما تبقى من قلاع الديكتاتورية والاستبداد فى أوروبا الغربية فى سبعينيات القرن الماضى، وشملت اليونان والبرتغال وإسبانيا، وبدأ التململ فى أوروبا الشرقية التى انتقلت من أنظمة شمولية إلى أنظمة تتوجه صوب الديمقراطية، ولا سيما بعد انهيار جدار برلين فى الـ9 من نوفمبر 1989 وانتهاء عهد الحرب الباردة، وامتدت الموجة إلى أمريكا اللاتينية وعدد من بلدان آسيا وإفريقيا، ومع أن رياح الديمقراطية انكسرت عند شواطئ البحر المتوسط، إلا أن حضورها اللاحق وإن جاء متأخرا، طرح عددا من الأسئلة الجديدة ــ القديمة فى ظل النكوص والتراجع وانسداد الأفق. وفاض الجدل حول مستقبل الديمقراطية وآفاقها، أكانت عريقة أم ناشئة أم جنينية؟
وتمثل المبادئ الدستورية والقانونية العامة مثل: «الشعب مصدر السلطات»، و«حكم القانون»، و«فصل السلطات»، و«الحقوق والحريات»، و«تداول السلطة سلميا»، الجوانب المعيارية ــ القيمية فى الديمقراطية، فى حين أن الجوانب الإجرائية العملانية تتبع الآليات المناسبة لإدارة التنوع وتنظيم شؤون الحكم، بما يتناسب مع تطور كل مجتمع.
وقد دلت التجربة التاريخية لنحو ثلاثة قرون من الزمن أن الديمقراطية كنظام تتطور وتتقدم، ولكن ليس دون مشكلات ونواقص وثغرات وعيوب، فهى ليست «مثالية»، بل هى كما عبر عنها ونستون تشرشل «النظام الأقل سوءا من غيرها»، وبهذا المعنى، فهى ليست «مخلصا» أو «خشبة نجاة» أو «وعدا»، بقدر ما تعبر عن إمكانية إدارة الحكم وتداول السلطة وتنظيم التنوع بالإقرار بالتعددية، ومثلما تحمل مشتركات قيمية وإنسانية عامة، فهى تمتلك خاصيات خصوصية، وهو ما أشار إليه قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 47 الصادر فى 4 ديسمبر عام 2000، والموسوم ب «تعزيز الديمقراطية وتوطيدها».
وعلى هذا الأساس، بإمكاننا القول: إن الديمقراطية سلسلة تجارب غير مكتملة، تتطور وتتغير وتتقدم وتتراجع أحيانا، وأهم ما فيها هو قدرتها على «إدارة التنوع» باتباع آليات سلمية، وحتى مع خروجها أحيانا على جانبها المعيارى باختيار المحكومين للحكام بصورة خاطئة.
كما حصل مع هتلر أو مع صعود الموجة الشعبوية الجديدة، التى أوصلت الرئيس الأمريكى دونالد ترامب إلى البيت الأبيض أو فوز الشعبويين حاليا فى النمسا وهولندا والدنمارك وبولونيا وتشيكيا والمجر، فضلا عن ارتفاع رصيدهم فى فرنسا (حزب مارى لوبان) وإيطاليا (حركة ال 5 نجوم) وألمانيا (حزب البديل الديمقراطي) وغيرها، فإن معالجة مثل هذا التوجه «غير الديمقراطى» سيكون بوسائل ديمقراطية، لأنها حتى الآن الآلية السليمة والأكثر قدرة على معالجة أزمات الحكم وتنظيم علاقة الحاكمين بالمحكومين.
وفى منطقتنا العربية واجهت الديمقراطية طائفة من التحديات الكبرى التى تقف حائلا أمام اجتيازها العتبة الأولى مثل «النزاعات الطائفية والمذهبية»، فضلا عن «التوترات الإثنية والقومية»، و«الحروب الأهلية»، و«العنف المجتمعى بجميع صوره»، و«الإرهاب الدولى»، و«الحروب الإقليمية»، إضافة إلى «شح ثقافة الديمقراطية»، ولا سيما مع تعاظم كوابح ما قبل الدولة وما دونها مثل العشائرية والجهوية وغيرها.
وهكذا، فالديمقراطية ظلت تراوح «بين المحظور والمنظور»، وتتجاذبها عوامل شتى من شد وإرخاء ونجاح وإخفاق، لكنها على الرغم من كل نواقصها وعيوبها تمثل خيارات وآليات تستجيب للحد الأدنى من المشتركات الإنسانية والخصوصية الوطنية، وليس هناك موديل كامل ونهائى يصلح لجميع المجتمعات.
الخليج ــ الإمارات