سبحان مغير الأحوال!
وليد محمود عبد الناصر
آخر تحديث:
السبت 4 يوليه 2020 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
خرجت علينا وكالات الأنباء العالمية منذ أيام قليلة بتصريحات منسوبة لنائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولى تدعو فيها حكومات العالم أجمع لمضاعفة الإنفاق على والاستثمار فى خدمات الصحة العامة والرعاية الصحية داخل بلدانها، واعتبرت ذلك ضرورة ملحة بل وفرضا يتعين الوفاء به!
وبالطبع فمن المفهوم لأى قارئ أو متابع للأمور عن قرب أن هذه التصريحات جاءت على خلفية ما كشفته أزمة اجتياح وباء فيروس «كورونا المستجد (كوفيد ــ 19)» لجميع مناطق وأرجاء العالم من أوجه نقص وعوار شديدة فى الخدمات الصحية المتواجدة وبرامج الرعاية الصحية المقدمة للمواطنين والمقيمين فى مختلف بلدان العالم، وهذا بالمناسبة ليس فقط فى البلدان الأقل نموا، أو حتى فى البلدان النامية، بل فى بلدان كانت إلى ما قبل ظهور وباء فيروس «كورونا المستجد (كوفيد – 19)» يتم تصنيفها باعتبارها دولا كبرى على ساحة المشهد العالمى.
وجاء هذا النقص، الشديد فى العديد من الأحوال، بسبب تبنى حكومات سابقة أو راهنة فى العديد من بلدان العالم لأولويات فى الإنفاق العام على مدار سنوات لم تكن الرعاية الصحية من بينها، وذلك انعكاسا ليس دائما بسبب التوجهات العقائدية والخلفيات الأيديولوجية للأحزاب أو القوى التى تتشكل منها تلك الحكومات، ولكن جاء ذلك فى العديد من الحالات بناء على «توصيات»، هى فى واقع الأمر أقرب إلى وأشبه بـ «المشروطيات»، القادمة لتلك الحكومات من مؤسسات تمويل دولية كانت تربط تقديمها للدعم التمويلى المطلوب من تلك الحكومات بشكل ملح بتلبية تلك «التوصيات»، والتى كان منها، ولسنوات طويلة، تخلى الحكومات عن مسئولياتها فى قطاعات توفير الرعاية الصحية والخدمات التعليمية وترك تلك الساحات لاستثمارات القطاع الخاص وإعطاؤه حرية الحركة فى هذه الميادين.
إلا أن وجه المفارقة فى تلك التصريحات الأخيرة المنسوبة إلى نائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولى هو أنها تشكل ابتعادا كبيرا، بل وشاسعا، عن توجهات وسياسات سابقة تبنتها الإدارات المتعاقبة التى تولت مسئولية صندوق النقد الدولى على مدار سنوات طويلة، بل وعقود ممتدة، منذ نشأته فى أعقاب انتهاء الحرب العالمية الثانية بسنوات قليلة، وترجمة تلك التوجهات والسياسات إلى «نصائح» كان يقدمها الصندوق إلى حكومات البلدان النامية وتلك الأقل نموا، وذلك عندما تلجأ حكومات تلك الدول للصندوق طلبا للدعم والمساندة، سواء مباشرة أو عبر طلب تعضيد الصندوق لطلباتها لدى مؤسسات التمويل الدولية والإقليمية، خاصة فى ظروف المصاعب والمحن والشدائد. فكان من ضمن هذه النصائح تركيز الحكومات على لعب دور «المنظم» أو «الميسر» ليس فقط للنشاط الاقتصادى للدولة، بل أيضا فى المجالات الاجتماعية مثل الرعاية الصحية والتعليمية، وترك جميع نلك المجالات للقطاع الخاص باعتبار أنه «الأكفأ» و«الأقدر» على حسن الإدارة وتحقيق الربح والعائد المجزى فى المشروعات الاقتصادية والمجتمعية.
وللإنصاف، نذكر هنا أنه حدثت بعض التراجعات والمراجعات من جانب صندوق النقد الدولى والبنك الدولى وغيرهما من مؤسسات منظومة «بريتون وودز» فى أعقاب ظهور وبزوغ مفهوم «التنمية البشرية» على يد العالم الاقتصادى العالمى البروفيسير «محبوب الحق» وعدد آخر من كبار علماء الاقتصاد فى العالم فى عقد الثمانينيات من القرن العشرين، ثم تبنى «برنامج الأمم المتحدة الإنمائى»، ومن بعده تبنى منظومة الأمم المتحدة ككل، لمفهوم ومنهج «التنمية البشرية» فى عقد التسعينيات من القرن العشرين، وبرز فى طليعة ركائز مفهوم ومنهج التنمية البشرية مسائل الرعاية الصحية والخدمات التعليمية كأولويات متقدمة المكانة والأهمية. وترتب على ذلك أنه كان من ضمن تلك المراجعات مواقف مؤسسات «بريتون وودز» تجاه مدى أهمية موضوعات الخدمات التعليمية والرعاية الصحية، وإن غلب على إيلاء الاهتمام لتلك الجوانب تأثيرها «الاقتصادى» وليس بالضرورة أثرها «الاجتماعى» أو «الإنسانى» أو «الحياتى» فى تلك المرحلة التاريخية التى نتعرض لها هنا.
وقد أظهر انتشار وباء «كورونا المستجد (كوفيد – 19)» على امتداد الشهور الماضية على هذا النحو السريع والمتعاظم عجز القدرات الاستيعابية والإمكانيات العلاجية لدى دول كثيرة عبر العالم، كان منها، كما ذكرنا آنفا، دول تعتبر دائما فى مصاف المتقدمة، بل والأكثر تقدما على المستوى العالمى، حيث بات واضحا للعيان أن السياسات التى تبنتها حكومات سابقة وحالية لتلك البلدان فى «ترشيد» الإنفاق على الرعاية الصحية على مدار سنوات سابقة، سواء لأسباب تتعلق بالانحيازات الأيديولوجية المسبقة لتلك الحكومات والأحزاب والقوى التى تمثل قاعدتها، أو لتلبية «نصائح» خارجية بتخفيض الإنفاق الحكومى العام مما انعكس سلبا على الإنفاق على الرعاية الصحية، كان له عواقب وخيمة دفع ثمنها فى حالة تلك البلدان، وربما لا يزال يدفع ذلك الثمن فى بعض الأحيان، المواطن العادى.
وقد استغرق الأمر بعض الوقت، بل فى بعض الأحيان الكثير من الوقت، حتى تستطيع الحكومة المعنية سرعة تحويل موارد مالية للدولة كانت مخصصة لتغطية مجالات واحتياجات أخرى بحيث أعيد تخصيصها وتوجيهها بسرعة لقطاع الرعاية الصحية فى تلك الدولة أو تلك، وكان ثمن هذا الوقت الضائع هو أرواح أزهقها الفيروس اللعين قبل أن تتاح لأصحابها فرصة الحصول على سرير فى مستشفى، أو حالات أخرى ساءت وتدهورت كثيرا لعدم توافر الرعاية الصحية المطلوبة فى حينها. ويصدق هذا على العديد من البلدان النامية والمتقدمة على حد سواء.
وفى ضوء هذه الحقائق على الأرض التى شاهدناها وتابعناها جميعا فكان من الطبيعى والمنطقى والمتوقع أن تصدر تلك التصريحات التى أشرنا إليها فى مقدمة هذا المقال عن نائبة المديرة العامة لصندوق النقد الدولى، الذى قرأ مسئولوه الواقع جيدا هذه المرة، بفعل تراكم الخبرات الموجودة بالتأكيد بداخله والمتراكمة عبر العقود، وخرج باستنتاجات صحيحة وعاجلة من جراء الوضع الصحى الكارثى الذى نتج عن فاجعة لنتشار فيروس «كورونا المستجد (كوفيد – 19)، وعجز البنية التحتية فى العديد من بلدان العالم عن استيعاب الأعداد المتزايدة من المصابين فى فترات الذروة أو تقديم العلاج اللازم والرعاية الصحية المطلوبة لهم، فى أحيان كثيرة بسبب سابق التقصير الحكومى فى الإنفاق على قطاع الرعاية الصحية، أيا كانت أسباب ذلك التقصير.
وقد يقول قائل إن هذه الدعوة من جانب كبار مسئولى صندوق النقد الدولى ربما تكون قد جاءت متأخرة بعض الشيء فى توقيتها، وهو قول صحيح فى جوهره بالتأكيد، إلا أننى أستعين هنا من جانبى بالمثل المعروف القائل بأنه «خير أن تأتى متأخرا عن ألا تأتى على الإطلاق»!.