ثورة فى الدولة الحديثة وليس عليها
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
الأحد 4 أغسطس 2013 - 10:20 ص
بتوقيت القاهرة
نجحت المصادمات المفجعة فى شوارع القاهرة وعشرات القتلى التى خلفتها، بعد ساعات قليلة من مظاهرات 7 يوليو ومن الاحتشاد الهائل فى 26 يوليو، فى أن تبعد الأنظار عن المعنى الأبعد لنزول عشرات الملايين إلى الميادين والشوارع بطول مصر وعرضها.
الإخوان المسلمون ومن يصطفون معهم يرون فى مطالب عموم المصريين وفى الإجراءات المعلنة فى 3 يوليو إجهاضا لما يعتبرونه «إنجازات» الثورة التى اندلعت فى يناير 2011. دستور 2012 وأدوات تقييد الحريات التى يحملها، وصبغته التمييزية الطائفية والمذهبية، هو من «إنجازات» الثورة فى نظر الإخوان وفريقهم. واكتساب المواقع الأساسية فى النظام السياسى، والتمدد فى الجهاز الإدارى للدولة، المركزى منه والإقليمى، والزحف على وسائط الاتصال هى أيضا من «إنجازات» الثورة. وتمثيل مصر والحديث باسمها وتعبئة العلاقات الخارجية من أجل تعزيز شرعية الحكم، هى «إنجازات» أخرى. لقد لخص أحد القياديين فى حزب الحرية والعدالة أهداف الإخوان من الثورة أبلغ تلخيص عندما قال لجمهوره المعتصم عند مسجد رابعة العدوية فى القاهرة أنهم «يستردون دولة سرقت منهم منذ 200 عام». هذا هو عمر الدولة الحديثة فى مصر، والثورة قى نظر الإخوان المسلمين هى ثورة عليها.
•••
الطلائع التى مهدت للثورة اعتبارا من سنة 2004، وتلك التى أطلقتها فى 2011، والجماهير التى شاركت فيها من غير الإخوان كانت لها أهداف مختلفة. ثورتها كانت فى الدولة الحديثة ومن أجلها. الدولة الحديثة فى مصر استأنفت اتصال مصر بالعالم منذ النصف الأول من القرن التاسع عشر، وهى التى قدَمت مصر على سائر بلدان «الشرق» فى التعليم والمرافق والصحة والثقافة وعدم التمييز بين المواطنين وحقوق المرأة، وهى التى جعلت منها قبلة ومثالا «للشرقيين» وللعرب وللأفارقة، ثم هى التى نصَبت مصر بين طليعة حركة تحرر العالم الثالث فى بداية النصف الثانى من القرن العشرين. غير أن الجماهير الثائرة، ولعقود قبلها، كانت تدرك النواقص الخطيرة للدولة المصرية الحديثة. استمرار الفقر والأمية، والتباين الفاضح فى الثروات والدخول، وعجز المرافق عن توفير ظروف حياة كريمة للمواطنين، واستشراء الفساد مظاهر لفشل الدولة الحديثة فى الاضطلاع بوظائفها. ولقد أدَى هذا الفشل إلى نتيجة خطيرة وهى أن الدولة خرجت على القانون وكبتت الحريات ومارست البطش والقمع حتى لا يناقشها الناس ويفرضون الإصلاح عليها. فلما عجزت الدولة عن كبت الأصوات المحتجة فى كل مكان وفقد البطش والقمع مفعولهما، ثارت الجماهير من أجل أن تعمل الدولة الحديثة على علاج أسباب فشلها وأن تتوقف عن ممارسة الكبت والقمع والبطش. غير أن المصريين أدركوا بعد سنة من حكم الإخوان المسلمين أن هذا الحكم لم يتصد لأى من أسباب ثورتهم وأنه، بدلا من ذلك، قوَض أسس الدولة الحديثة وحقق المكتسبات لجماعته، فخرجوا إلى الميادين والشوارع من جديد تمسكا بتحقيق أهداف الثورة ودفاعا عن الدولة الحديثة، من داخل مبادئها الأساسية وليس خروجا عليها.
•••
نجاح جماهير 30 يونيو و26 يوليو فى مقاصدها يتوقف على عاملين. العامل الأول هو حرصها على الأهداف التى خرجت لتحقيقها فى يناير 2011. لقد انضم إلى هذه الجماهير فريق لا يعبأ بخروج الدولة الحديثة على القانون، ولا يكترث بعلاج مظاهر فشل هذه الدولة فى الاضطلاع بوظائفها. ما ينشده هذا الفريق هو العودة بعقارب الساعة إلى الوراء. هذا الفريق لن ينجح فى مسعاه لأن التاريخ لا يكرر نفسه إلا فى شكل المسخ الهزيل. ولكن هذا الفريق يمكن أن ينجح فى تعطيل تقدم الجماهير نحو تحقيق أهدافها وفى عرقلته مرحليا. لذلك، فإن على الجماهير الثائرة أن تستبعد هذا الفريق الرجعى والانتهازى غير الديمقراطى من صفوفها، وأن تتمسك، أول ما تتمسك، باحترام الدولة للقانون وبالعمل فى إطاره، بما فى ذلك فى تعاملها مع الإخوان المسلمين ومناصريهم، أيا كانت مظاهر غضبهم من إجراءات 3 يوليو. ليس احترام القانون تقييدا للدولة ولا ضعفا منها، بل هو دحر سلمى لحجج الإخوان المسلمين وتقويض لفرص نموهم. ألم يكشف البحث العلمى عن أن الإسلام السياسى لا ينمو قدر ما ينمو فى بيئة تقمعه وتخرج على القانون فى معاملته، وأنه يضعف حيث تعامل أفكاره مثل غيرها، دون تنكيل ولا تبجيل؟ ثم إن العمل فى إطار القانون هو فى ذاته محرك لرفع مستوى كفاءة الدولة الحديثة ولعلاج أمراضها.
•••
العامل الثانى والذى سيكون أكثر حسما فى الصراع السياسى السلمى مع كل من الإخوان المسلمين، من جانب، والرجعيين غير الديمقراطيين، من جانب آخر، هو أن تنظم الجماهير النشطة نفسها فى جماعات وحركات وأحزاب سياسية حديثة، وأن تنشئ قنوات الاتصال الدائمة مع الفئات غير النشطة من أبناء الشعب المحتاجة إلى التأطير والمساندة. بعد ذلك، على الجماهير الثائرة من يناير 2011 إلى يوليو 2013 أن تستفيد من كل من التنظيم والتأطير والمساندة فى رفع مستويات المشاركة فى النظام السياسى، بما فى ذلك المشاركة فى العمليات الانتخابية والاستفتاءات. عشرات الملايين التى خرجت فى شهرى يونيو ويوليو الماضيين معين هائل يكشف عن تسيُس عن المصريين وعن استعدادهم للتنظيم والمشاركة. على المبادرين بالفعل السياسى اغتنام الفرصة والانتشار بين المصريين المسيسين من أجل تنظيمهم، وشحذ أفكارهم، وتعبئة المبادرين والناشطين الجدد من بينهم. تكثيف التنظيم السياسى ورفع مستوى المشاركة، تحقيقا لأهداف الثورة، هما فى حد ذاتهما بمثابة البناء لنظام سياسى ديمقراطى، والتعزيز للدولة الحديثة.
الجماهير المستعدة دائما للخروج إلى الشوارع والميادين هى الضمان لنجاح الثورة المعلنة فى الدولة الحديثة. ولكن هذا النجاح يستدعى منها، وقد اكتشفت قوتها، ألا تركن إلى غير نفسها. إن أمام الجماهير نزالات سياسية عليها أن تخوضها بتنظيم وعزم وجسارة، وبسلمية لا تحيد عنها.