مسألة أفق سياسى
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الإثنين 4 أغسطس 2014 - 8:30 ص
بتوقيت القاهرة
أمام احتمالات حرب أهلية ليبية طويلة وفوضى سياسية ضاربة تقضى على فكرة الدولة كلها فإن صانع القرار المصرى يجد نفسه أمام أخطار جديدة تداهمه على حدوده الغربية بينما شلالات الدم تنفجر فى غزة على حدوده الشرقية.
وسط النيران التحديات لا تنتظر تأجيلا ولا تحتمل ارتباكا.
اللافت فى الانفجارين الحدوديين أن أحدا لا يعرف ما صورة المستقبل الذى يطلبه ولا كيف يتصرف فى الملفين بطول نفس وفق رؤية يتبناها.
العدوان على غزة سوف يتوقف بسيناريو أو آخر، فالعالم لا يمكن له أن يحتمل مشاهد التقتيل الجماعى والتطهير العرقى وإسرائيل لا يمكن لها أن تتحمل عواقب إدانتها بارتكاب جرائم ضد الإنسانية على نطاق واسع لم يسبق أن تعرضت له، فضلا عن فشلها الذريع فى إلحاق الهزيمة العسكرية بجماعات المقاومة الأقل تسليحا وتنظيما.
فى سيناريوهات التهدئة المحتملة خيط رئيسى يعمل على إبقاء المشهد الفلسطينى على ما هو عليه من انقسامات وأزمات لحين عدوان إسرائيلى آخر.
وقف العدوان ضرورى لكنه ليس نهاية القصة.
السؤال الحقيقى الآن: أين الأفق السياسى؟
لا توجد إجابة واحدة شبه متماسكة، فحكومة الوفاق الوطنى الفلسطينية أضعف من الأطراف التى شكلتها ولم يكن لها دور جدى فى إدارة الأزمة واحتمالات الاندماج فى صيغة جديدة تضمن وحدة الشعب والقضية شبه مستبعدة فى أى مدى منظور.
الأخطر جر القضية الفلسطينية كلها إلى التجاذبات الإقليمية أو أن تكون ميدان الصراع لا موضوعه.
الشرعية الدولية والأخلاقية تسند مطالب رفع الحصار الظالم عن غزة وأهلها والإفراج عن الأسرى الفلسطينيين غير أن القضية أكبر من أن تلخصها مطالب تعرض على متدخلين دوليين وإقليميين للتوصل إلى تهدئة، فغزة لا تلخص فلسطين وإن كانت جرحها المفتوح ودمها المهدر فى هذه اللحظة.
تلخيص فلسطين فى غزة يفضى كتلخيص غزة فى حماس إلى ذات العواقب السياسية الوخيمة.
السؤال الفلسطينى بتعقيداته يطرح نفسه بقوة على الرئاسة المصرية الجديدة، وبغض النظر عما اعترى القضية الفلسطينية من تراجعات قاسية فإنها مازالت ميزان الحكم على السياسات والتصرفات فى المنطقة.
بمعنى آخر لا يمكن لأى نظام حكم أن يكتسب تأثيرا فى المعادلات الإقليمية إن لم يكن لديه دور يلعبه وفق رؤية يتبناها فى القضية الفلسطينية.
قادت مصر على عهد «جمال عبدالناصر» المنطقة من البوابة الفلسطينية وخرجت منذ عهد «أنور السادات» من البوابة ذاتها.
مأساة العالم العربى الآن والحرائق تشتعل فى عواصمه الكبرى أن بواباته نزعت من أماكنها وبوصلات حركته دفنت تحتها ودوله تتقوض واحدة إثر أخرى.
بقدر الأزمات وعقدها المستحكمة تتبدى الأدوار وأوزانها وصور الرجال فى التاريخ.
رغم محورية الاختبار الفلسطينى لأى دور مصرى مستقبلى فإن الاختبار الليبى يكاد يكون ميدان الحسم للوزن المحتمل.
ليبيا مسألة أمن قومى ووحدة مصير وأى انهيار نهائى محتمل لمشروع دولتها فمصر أول من يكتوى بناره.
فى الأوضاع التى تلت إطاحة «حسنى مبارك» فى مصر و«معمر القذافى» فى ليبيا تدفقت ترسانات سلاح من مخلفات حلف «الناتو» الذى لعب دورا محوريا فى إطاحة العقيد الليبى ومن مخازن سلاحه التى تركها.
بحسب تقديرات أولية فإن (٨٠٪) من السلاح الذى دخل مصر ووجد طريقه إلى جماعات إرهابية تسرب عبر الحدود الليبية، غير أن القضية تتجاوز الاعتبارات الأمنية المباشرة، فهناك مصالح استراتيجية كبرى مشتركة وصدامات إقليمية حادة على القوة والنفوذ من بين أهدافها تهميش الدور المصرى مستخدمة الأخطاء الفادحة التى يرتكبها.
لم تكن مصادفة انفجار النيران فى طرابلس وبنى غازى قبل التئام المجلس النيابى الجديد الذى كسب نتائج انتخاباته التيار المدنى على حساب جماعة الإخوان المسلمين.
النتائج الانتخابية تؤشر إلى ضيق المجتمع الليبى بالميليشيات والجماعة طلبا لعودة الدولة وأن تكون هناك مؤسسات تحكم.
المثير أن متحدثا باسم الجماعة فى ليبيا وصف قصف مطار طرابلس بأنه «عمل مشروع» رغم أن محصلته إجرامية بالمعنيين السياسى والجنائى، فقد خسرت ليبيا أكثر من عشرين طائرة مدنية والحرائق النفطية وضعت العاصمة تحت الخطر الداهم. التصريح بنصه يضع الجماعة مباشرة فى مواجهة مع مشروع الدولة وفى صف جماعات تكفيرية ترفع سلاحها ضد المجتمع ويسحب فى الوقت نفسه أية شرعية أخلاقية فى خطاب المظلوميات ويؤثر بالسلب على أية تفاهمات محتملة فى إعادة دمج حركة «حماس» فى محيطها العربى.
السؤال الحقيقى أمام صانع القرار المصرى فى لحظة تحول مصيرية: أين الأفق السياسى؟
غياب الرؤية ينزلق بالأقدام إلى مكامن الخطر.
من مصلحة مصر أن تكون هناك دولة فى ليبيا وأن يتمكن برلمانها المنتخب من الإضطلاع بأدواره وأن تبنى جيشا قادر على مواجهة الميليشيات.
لا توجد فى ليبيا دولة بأى معنى متعارف عليه، وقد أودت إطاحة «القذافى» بالطريقة التى جرت بها إلى تكريس فوضى السلاح ومنازعات جهوية دموية كالتى بين «الزنتان» و«مصراتة» ودخول أطراف إقليمية تمتلك النفوذ والمال إلى ساحاتها المفتوحة.
لم تكن ليبيا موحدة بالمعنى الحديث قبل الاستعمار الإيطالى وفى عهد «القذافى» تراجع مفهومها المؤسسى وضاق المجال العام بصورة خطيرة غير أن ما جرى بعده جريمة أكبر وأخطر فقد نسفت الدولة كلها واستحالت ركاما فوقه سلاح.
مشكلة مصر مع ليبيا أن السياسات تناقضت فى فترة زمنية محدودة بين الرهان على وحدة إقليمية فى عمق حدودها فى نهايات عهد «عبدالناصر» طردت القواعد العسكرية الأمريكية والبريطانية وغيرت استراتيجيات جنوب المتوسط بصورة شبه جذرية واستضافت قواتها البحرية بعد هزيمة (١٩٦٧) إلى حملات سباب متبادلة على عهد «السادات».
فيما بعده تبنى خلفه «حسنى مبارك» رؤية مختلفة للعلاقات الليبية حافظت على شىء من الاتصال السياسى والمصالح المشتركة أمنيا واقتصاديا فى أضيق الحدود بالنسبة للدولتين وفى نطاق أوسع بالنسبة للأسرتين.. لكنه ظل معتقدا فى رؤية «السادات» من أن «القذافى مجنون» على ما تحدث بإسهاب فى اجتماع ضمه قبل أكثر من عشر سنوات مع رؤساء تحرير الصحف المصرية التى خرجت فى اليوم التالى على لسان وزير الإعلام فى ذلك الوقت «صفوت الشريف» تتحدث فى عناوينها الرئيسية عن العلاقات الخاصة بين البلدين و«الزعيمين».
فى الوقت نفسه لم يكن الرجل الآخر فى تلك العلاقة الخاصة يحمل لنظيره المصرى أى تقدير أو احترام.
فى صيف عام (٢٠١٠) وصفه بأنه لا يمتلك شأن الحكام العرب الآخرين الحد الأدنى من الثقافة والمعرفة، وكانت الجملة حساسة بالنسبة لرجل كان يتولى وقتها الرئاسة الدورية للقمة العربية إلى حد أنه طلب بنفسه عدم نشرها: «كيف أترأس قمة ثقافية عربية يحضرها هؤلاء الجهلة؟».
البيئة كلها تغيرت الآن فلا رهانات كبرى على وحدة مصرية ليبية ولا صدامات محتملة بين الرئاسات فى أى مدى منظور لكن هناك مصالح مشتركة عميقة تقتضى مقاربات مختلفة أوسع فى أفقها من المفهوم الأمنى المباشر. وهذه مسألة رؤية يعترض غيابها المصير المصرى على حدوده المشتعلة بالنيران.