مزيد من الخواطر عن ظاهرة داعش
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 أغسطس 2015 - 7:55 ص
بتوقيت القاهرة
لدىّ العديد من الشكوك حول ظاهرة داعش، تجعلنى لا أتعاطف بالمرة مع معظم ما ينشر عنها من تعليقات وتفسيرات. وقد ذكرت بعض هذه الشكوك فى مقالى السابق، وأذكر الآن مزيدا منها. يدفعنى إلى الاسترسال فى الكلام عنها أنها، مهما يكن تفسيرنا لها، ظاهرة خطيرة ومزعجة للغاية. وقد ملأت حياتنا فى الشهور الماضية، ولاتزال، بالهم والقلق لما يقترن باسمها من أعمال إجرامية.
إن اسم داعش يقترن من حين لآخر باسم تنظيم آخر قديم هو «القاعدة»، واسم زعيمها «أسامة بن لادن» الذى سمعنا عن مقتله على يد المخابرات الأمريكية منذ أربع سنوات. هذا الاقتران بين داعش والقاعدة، كان هو نفسه أحد أسباب شكى فى داعش، إذ إننى وصلت منذ زمن طويل إلى اقتناع راسخ بأن تنظيم القاعدة نفسه، وشخصية أسامة بن لادن، وما نسب إليه من أعمال، كل ذلك أكذوبة كبيرة، لا علاقة لها البتة لا بالإسلام ولا بالدوافع التى يزعم أنها وراء نشأة هذا التنظيم وما ارتكبه من أعمال.
بدأ هذا الموقف منى منذ قراءتى لمقال نشر فى جريدة بريطانية، عندما كان اسم بن لادن لايزال اسما جديدا على أسماع الناس، وذكرت الجريدة نبذة عن حياته وأنه من أسرة سعودية بالغة الثراء، ولكنه أيضا بدأ حياته شابا لاهيا، يقضى معظم وقته فى ملاهى بيروت دون أن يعرف عنه أى شىء يوحى بالتقوى والورع. صدقت هذا لأن هذا هو ما يتفق مع حالة شاب بالغ الثراء، ينتسب لبلد لا تسمح ظروفه السياسية والاجتماعية بقيام تنظيم له أهداف كتلك التى تنسب لـ«القاعدة»، ولكنها تسمح بممارسة حياة اللهو والعبث فى بيروت أو غيرها.
عندما كنت أذكر لبعض أصدقائى أن هذه البداية لا تتفق بتاتا مع ما قيل عن ورعه وتقواه، وعن تبنيه لمبادئ تتعلق بالدفاع عن الإسلام أو بالانتقام للإسلام من الغرب الظالم، كان بعضهم يقول لى «بل إن هذا ممكن»، أى أن من الممكن أن يبدأ شخص حياته لاهيا عابثا ثم يتحول إلى شخص مستعد للتضحية بحياته من أجل الإسلام. كنت أقول فى نفسى: «نعم، ممكن، ولكنه مستبعد جدا».
ظل هذا الاعتقاد لدىّ يقوى مع مرور الزمن كلما سمعت عن نسبة أعمال فى غاية الغرابة إلى هذا الرجل، مع ظهور صور له على شاشة تليفزيون دولة صديقة جدا للدولة العظمى التى يقال إنه يعاديها، وهو ما يقول كلاما مدهشا ينسب فيه لنفسه أنه هو صاحب فكرة تدمير البرجين الشهيرين فى نيويورك فى ١١ سبتمبر ٢٠٠١. كنت أتعجب (مع كثير من السخرية) كيف وصل الفيديو الذى يحمل هذه الصورة وهذا الحديث إلى تلك القناة التليفزيونية الشهيرة، دون أن تستوقفه بعض الجهات التى تعمل لخدمة المخابرات الأمريكية، فتقبض على حامله، وتمنع إذاعته تجنبا لتفجيرات أخرى فى المستقبل.
استمر هذا العبث بعقول الناس حتى رأينا منظرا فى التليفزيون تجلس فيه هيلارى كلينتون (وزيرة الخارجية الأمريكية حينئذ) ومجموعة من كبار المسئولين الأمريكيين ليشاهدوا (على شاشة التليفزيون أيضا) منظر مقتل بن لادن على يد المخابرات الأمريكية فى الباكستان (فى منزل يبعد بضع خطوات فقط عن مركز للمخابرات الباكستانية)، ثم إلقاء جثمانه فى البحر، رغبة بلاشك فى الإيحاء بأن الرجل قد اختفى إلى الأبد، تنفيذا بلاشك أيضا لخطة الاستغناء عن هذه الأكذوبة تمهيدا لاستخدام أكذوبة غيرها (مما قد يستحق الذكر أن هذه النهاية لقصة بن لادن حدثت فى مايو ٢٠١١، أى بعد شهور قليلة من بداية ما يسمى بـ«الربيع العربى»، الذى ربما استوجب اختلاق أكذوبة جديدة).
* * *
لابد أن «داعش» كانت جزءا من هذه الأكذوبة الجديدة، وهى أيضا تزعم أنها تعمل من أجل تحقيق مجد الإسلام، ولتنتقم للإسلام مما فعلته دول الغرب ضد المسلمين. وفى سبيل ذلك ارتكبت داعش ما سمعنا عنه من قتل وتخريب لمدن إسلامية (لا لمدن غربية)، ولآثار عزيزة على العرب. ثم سمعنا عن نجاح هذه الحركة فى تعبئة آلاف مؤلفة من شباب الغرب نفسه، أتوا للانضمام لداعش رغبة أيضا فى تحقيق مجد الإسلام.
قيلت أشياء غريبة فى تفسير ذلك. من ذلك مثلا القول بأن داعش هى نتيجة لاعتناق بعض العرب الأفكار الوهابية. ولكن نشأة الوهابية تعود إلى أكثر من قرنين، تصالح خلالهما الوهابيون مع نظم غير ثورية بالمرة، كالنظام السعودى مثلا. وإحياؤها بعد قرنين يحتاج إلى تفسير آخر يتعلق بما جد من ظروف.
هناك من يرى فى حركة داعش غضبا وتمردا على ما يسود البلاد العربية من ظلم اجتماعى وفساد وفقر. وهذا التفسير ممكن أيضا ولكنه مستبعد جدا كذلك. فالمقبول عقلا أن الثائر على الظلم والفساد يتوجه بثورته وغضبه إلى الظالمين والفاسدين ولا يصب جام غضبه على الأبرياء ممن لم يرتكبوا فى حياتهم أى ظلم، وليس فى قدرتهم ممارسة أى فساد.
قيل أيضا إن داعش هى ثورة على الدول الغربية وانتقام مما فعلته ضد المسلمين. فلماذا تقتصر ثورة داعش ضد الغرب على الكلام ولا تتوجه بأعمال التخريب والقتل والتدمير إلا إلى المسلمين أو العرب أنفسهم؟ ولماذا يأتى بعض الشباب المنتمين لدول غربية، لممارسة التخريب والتدمير فى بلاد عربية ولم يحاولوا ممارسة ذلك فى بلادهم الظالمة؟
* * *
فى ديسمبر ٢٠١٤، عقد اجتماع لدول حلف الأطلنطى، لبحث طريقة التصدى لظاهرة داعش. وقد صدرت تصريحات فى أعقاب الاجتماع توحى كالعادة بأن دول هذا الحلف منزعجة من هذه الظاهرة وتنوى عمل كل ما فى وسعها لوضع حد لها. ولكن التصريحات الرسمية تقول، كالعادة أيضا، أشياء مختلفة جدا عن الحقيقة. إذ ها قد مرت ثمانية أشهر على هذا الاجتماع، وعدة سنوات قبل الاجتماع ولكن بعد ارتكاب داعش جرائم فظيعة، ولم يظهر أن دول حلف الأطلنطى راغبة حقا فى وضع حد للظاهرة. السبب غير واضح، ولكن الموقف نفسه واضح جدا، كما أن من الواضح لى على الأقل، أن السبب فى هذا العزوف عن التصدى لظاهرة داعش، لا يتعلق بعدم الثورة بل بعدم الرغبة. إذ إنه يستحيل علىّ أن أتصور أن هذه الدول التى تضم أقوى دول فى العالم، وأكثرها كفاءة، وأعظمها خبرة فى ميدان الاستخبارات، لا نستطيع وضع حد لهذه الظاهرة إذا رغبت فى ذلك. ما الذى يمنعها من ذلك يا ترى؟ هذا هو أحد المجالات الرائعة للتخمين، ولكننى لن أشغل القارئ بتخميناتى فى هذا الأمر. اكتفى هنا فقط باقتطاف خطاب بليغ كتبته سيدة إنجليزية لصحيفة الجارديان (ونشر فى ٦ يوليو الماضى)، تعليقا على ما نشرته الجريدة على الجريمة التى ارتكبتها داعش على شاطئ مدينة سوسة فى تونس. يقول الخطاب:
«إن كثيرا من القنابل الأمريكية والبريطانية قد تم إلقاؤها بالفعل على الشعب السورى والشعب العراقى دون أن تلحق أى ضرر يذكر بداعش.. هل سألنا أنفسنا من الذى يقوم باستخراج البترول الذى تسيطر عليه داعش الآن، والذى يمثل مصدر قوتها؟ ومن الذى يقوم بنقله عن طريق البحر أو عن طريق ضخه فى الأنابيب عبر مختلف القارات؟ هل قمنا بأى جهد لوقف أى من هذه الأعمال، سواء فى أسواق التجارة الخارجية أو فيما نسميه بالدبلوماسية العالمية؟ ما الذى يمكـّن داعش من تخريب اقتصاديات بعض الدول، ومن دفع الأجور للعمال فى هذا العصر المعروف بعصر العولمة؟ وما الدور الذى تلعبه البنوك لتمكينها من ذلك؟».