بعيدا عن روسيا وأوكرانيا.. تحديات أوروبية أخرى
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 4 أغسطس 2023 - 8:15 م
بتوقيت القاهرة
يواجه الاتحاد الأوروبى سلسلة من الإشكاليات المؤسسية والسياسية التى تهدد وجوده. فلم يعد فى الإمكان إدارة مؤسسات الاتحاد التنفيذية وبيروقراطيته المتمثلة فى المفوضية الأوروبية وفقا للمبادئ المتبعة منذ البدايات الأولى فى عام 1951 (معاهدة باريس المنشئة للجماعة الأوروبية للفحم والصلب). فمبدأ الإجماع كشرط لاتخاذ القرارات فى مجلس رؤساء الدول والحكومات الأعضاء (المجلس الأوروبى) ومبدأ صوت واحد لكل عضو يتجاهلان اختلاف الأوزان النسبية بين الدول الكبيرة والصغيرة. فحين كانت عضوية المؤسسات الأوروبية قاصرة على دول ست بدأت تجربة الاندماج فى النصف الثانى من القرن العشرين وتوافقت ضمانا لمصداقية البدايات على المساواة التامة فيما بينها لم يشكل الوصول بصورة عقلانية إلى إجماع حول القضايا الرئيسية والتى كانت بالأساس اقتصادية الطابع معضلة حقيقية. أما خبرة السنوات القريبة الماضية فجاءت، خاصة مع الزيادة المطردة فى عدد الأعضاء وتعقد وتوسع مساحة القضايا المطروحة أمام مؤسسات الاتحاد، معبرة عن جوهر مغاير رتب فى سياق تعنت هذه الدولة أو تلك فى الدفاع عن مصالحها الوطنية وتغليبها الأخيرة على المصلحة الجماعية شل فاعلية الاتحاد والحيلولة دون اتخاذ قرارات حيوية.
فى النصف الثانى من التسعينيات، أعاقت إسبانيا على سبيل المثال تقدم مفاوضات انضمام الأعضاء الجدد من وسط وشرق وجنوب القارة خشية تراجع حجم المساعدات المقدمة لها من جانب الاتحاد بينما ابتزت لندن العواصم الأخرى طويلا من خلال معارضة معظم القرارات الأوروبية حتى صار الأمر إلى التخارج البريطانى. كذلك يصعب تصور أن تتساوى ألمانيا وفرنسا وإيطاليا وبولندا بأهميتها التاريخية والاستراتيجية مع جزر صغيرة كمالطة وقبرص أو مع دول قليلة السكان مثل ليتوانيا ولاتفيا بمنطق صوت واحد وحق فيتو لكل دولة. البحث عن أسلوب ديمقراطى لتحقيق ذلك دون أن تشعر الدول الأضعف بانتفاء حقها فى الاختيار وبهيمنة الدول الكبيرة على مقدراتها السياسية والاقتصادية هو التحدى المطروح على الاتحاد باستمرار والذى يزداد خطورة بسبب وجود العديد من الحساسيات بل والمخاوف التقليدية بين الشعوب والدول الأوروبية. فجمهورية التشيك والنمسا وهولندا على سبيل المثال لديهم مخاوف قديمة ومشروعة بحكم التاريخ من الهيمنة الألمانية، فى حين ترى إسبانيا والبرتغال وأحيانا إيطاليا فى السياسة الفرنسية محاولة مستمرة للسيطرة على شئون القارة أو على الأقل ادعاء التحدث باسم جنوبها.
• • •
من جهة ثانية، يشكل تطوير الهياكل المؤسسية للمجلس الأوروبى والبرلمان الأوروبى على نحو يستجيب لتحديات العدد الكبير للأعضاء ويؤكد الطابع الديمقراطى للاتحاد تحديا إضافيا. فى هذا الصدد، تطرح تساؤلات مشروعة عن مدى واقعية وفاعلية الممارسة الأوروبية القائمة على حق كل عضو فى أن يمثل على الأقل بمفوض فى المجلس وعن كيفية إشراك البرلمانات الوطنية، وهى الأقرب إلى المواطنين والمواطنات، فى عملية اتخاذ القرار على مستوى الاتحاد على نحو يقلل من طابعه البيروقراطى الذى تصاعدت موجات انتقاده فى الآونة الأخيرة. فحقيقة الأمر أن عمل المؤسسات الأوروبية يغلب عليه الطابع البيروقراطى وغياب الشفافية فى ظل غابة من القوانين شديدة التعقيد المنظمة للجوانب الاقتصادية والمالية والاجتماعية للاتحاد والتى لم يعد بإمكان المواطِنة والمواطن الأوروبى فهمها بسهولة.
ثم هناك المشكلة المزمنة المتمثلة فى تعارض الاختصاصات بين المفوضية وحكومات الدول الوطنية خاصة فيما يتعلق بتنظيم سوق العمل والنظام الضريبى والقضايا المرتبطة بالعملة الموحدة والسياسة النقدية، وهى تلك المشكلة التى ينفذ منها اليمين المتطرف والشعبوى لتشكيك الشعوب الأوروبية فى شرعية الاتحاد والدعوة إلى إعادة الاعتبار للسيادة الوطنية. فعلى الرغم من النجاحات الأوروبية المتتالية فى تطوير آليات اندماجية جديدة إلا أن عدم استعداد الدول الأعضاء للتخلى عن حقوقها السيادية يرتب صراعات مستمرة بينها وبين الاتحاد حول العديد من التفاصيل، ويصبح الأمر أكثر سوءا بجنوح بعض الدول مثل ألمانيا فى ظل الظروف الاقتصادية الصعبة لفرض إرادتها على غيرها من الدول الأعضاء.
• • •
من جهة ثالثة، تختلف الثقافة السياسية للنخب الأوروبية فيما يتعلق بمسألة السيادة الوطنية. فقد تطورت لدى الأعضاء القدامى على وقع خبرة حربين عالميتين خاضتهما القوميات الأوروبية المتطرفة رؤية للسيادة تصنفها فى مرتبة ثانية بعد هدفى الاستقرار السياسى والرخاء الاقتصادى على نحو مكن دولا مثل ألمانيا وفرنسا وإيطاليا فى ظل الليبرالية السياسية واقتصاديات السوق من التعاطى العقلانى والخلاق مع التنازلات المستمرة عن حقوق أصيلة لها فى مجالات السياسة النقدية والتجارية ونظم الضمانات الاجتماعية وقضايا الأمن والحدود فاتحة بذلك الباب أمام الاندماج الإقليمى. غير أن ذات الدول تعود نخبها اليوم على وقع الأزمات الاقتصادية والاجتماعية للتشكيك فى التنازلات التى قدمت باسم الاندماج.
أما دول أوروبا الشرقية والوسطى فظلت بعيدة عن هذه التجربة. بل إن إرث الهيمنة السوفيتية عليها رتب فى أعقاب التحولات الديمقراطية فى تسعينيات القرن العشرين وصول ائتلافات حاكمة فى هذه البلدان اتسم خطابها السياسى بالنزعة القومية الواضحة كما فى بولندا والمجر على سبيل المثال.
الحال إذا هو أن الاتحاد الأوروبى يواجه فى اللحظة الراهنة تحديا جوهريا بحكم التناقض بين منطقين، تخطى حواجز السيادة الوطنية وتصاعد مستويات الاندماج فى القارة وصولا إلى حلم أوروبا الموحدة من جهة والمحافظة على الدول الوطنية والتنازل فقط عن ذلك الحد الأدنى من حقوق السيادة الذى يسمح ببقاء الاتحاد.
• • •
من جهة رابعة، ثمة مرحلة جديدة من الصراع حول الجوهر الأخلاقى والمجتمعى للنموذج الأوروبى بدأت على وقع صعود اليمين المتطرف وتفاقم قضايا الفقر والتوزيع غير العادل للدخل بين قطاعات السكان ومسألتى الهجرة واللجوء. فمن المعروف أن تجربة الاندماج الأوروبى بدأت فى سياق النجاحات المتتالية «لدولة الرفاه» فى الشطر الغربى فى بناء اقتصاديات سوق ذات بعد اجتماعى ونظم متكاملة للرعاية المجتمعية وتنظيم ليبرالى ديمقراطى للمجال السياسى دفع بتقاليد الإنسانية والعلمانية الأوروبية إلى الواجهة. دولة الرفاه هذه دخلت منذ النصف الثانى من ثمانينيات القرن العشرين فى سلسلة من الأزمات الاقتصادية بحكم تراجع معدلات النمو والسياسية فى ظل تصاعد الخطاب الليبرالى الجديد الرافض للجانب الاجتماعى فى التجربة الأوروبية ثم صعود اليمين المتطرف. فقد هيمنت الليبرالية الجديدة ومنطق اقتصاد السوق المتجرد من الاعتبارات المجتمعية والباحث على الدوام عن مواطن العمالة الرخيصة على التسعينيات، واليوم تهيمن قضايا الهجرة واللجوء التى يصدرها اليمين المتطرف كأصل كل الأزمات على الفضاء العام وتتراجع بعنف الثقة فى دولة الرفاه العادلة اجتماعيا والقادرة على حماية القيم الإنسانية فى مواجهة النزعات القومية والعنصرية.
فقد صار إطلاق العبارات المعادية للأجانب والكارهة للاجئين واللاجئات ظاهرة سياسية وإعلامية مقبولة فى قارة يفرض تاريخها فى النصف الأول من القرن العشرين الحذر الشديد من مجرد حضور مشاعر العداء والكراهية للأجانب فى الفضاء العام، فى قارة يفرض تاريخها فى النصف الأول من القرن العشرين التوجس من صعود الأحزاب اليمينية المتطرفة والحركات العنصرية ومواجهتها الحاسمة بدحض أفكارها وشعاراتها المتهافتة والامتناع التام عن الاقتراب من اختزالها للأزمات السياسية والاجتماعية والاقتصادية فى ظواهر سلبية يدفع بمسئوليتها إن باتجاه الآخر الدينى كما فى الماضى (اليهود فى النصف الأول من القرن العشرين) أو الآخر العرقى والدينى كما فى الوقت الراهن (الأجانب غير الأوروبيين واللاجئات واللاجئين القادمين من العالم العربى والإسلامى).
وإذا كان إطلاق العبارات المعادية للأجانب والكارهة للأشخاص اللاجئين فى أوروبا يمثل تناولا سياسيا وإعلاميا خطيرا لقضية الهجرة، فإن توقع أن يرتب الصمت على الصعوبات التى تطرحها الأعداد المتزايدة للمهاجرين واللاجئين، من الجنسين، على المجتمعات والسياسة الأوروبية فى ألمانيا تراجعها تدريجيا يظل دربا من الخيال. المطلوب هو، من جهة، المعالجة الموضوعية للهجرة التى تضغط منذ ٢٠١٥ بمئات آلاف القادمين الجدد اقتصاديا واجتماعيا وثقافيا وأمنيا على أوروبا، ومن جهة أخرى طرح رؤى وحلول سياسية واقعية لاندماج الأجانب والأشخاص اللاجئين ولأزمات البطالة والفقر فى المجتمعات الأوروبية.
فالاتحاد الأوروبى لديه مصلحة أمنية واستراتيجية عامة ومشتركة بين جميع الدول الأعضاء تقضى بالحد من الهجرة غير الشرعية والتعاون مع دول شرق البحر المتوسط، تركيا وسوريا ولبنان وإسرائيل، ومع دول جنوب المتوسط من مصر إلى المغرب لقطع خطوط انتقال المهاجرات والمهاجرين القادمين من بلدان أفريقية وأحيانا من بلدان آسيوية بعيدة كأفغانستان. خلال السنوات الماضية، تطور التعاون الأمنى بين الاتحاد الأوروبى ودول شرق وجنوب المتوسط على النحو الذى ظهرت معه، من جهة، مراكز إيقاف وتجميع ودراسة أحوال الأشخاص المهاجرين غير الشرعيين على شواطئ المتوسط الشرقية والجنوبية قبل محاولتهم الانتقال إلى أوروبا أو بعدها (الترتيبات الأخيرة مع تونس نموذجا).