رسائل الاغتيالات المنهجية.. وما بعدها

عبد الله السناوي
عبد الله السناوي

آخر تحديث: الأحد 4 أغسطس 2024 - 6:10 م بتوقيت القاهرة

 

لم تكن عودة الاغتيالات المنهجية محض تصفية حسابات قديمة ومستجدة.

إنها لعب بالنار عند حافة هاوية بإقليم تكاد تشتعل النيران فى جنباته كلها.

إثر اغتيال «إسماعيل هنية» رئيس المكتب السياسى لحركة «حماس» بعد يوم واحد من اغتيال «فؤاد شكر» أبرز القادة العسكريين فى حزب الله  تبدت مخاوف واسعة من انفلات وشيك إلى حرب إقليمية مدمرة.

برمزية موقعه حمل اغتيال «هنية» فى العاصمة الإيرانية تحديا يصعب تجاوزه دون رد مماثل، وإلا تقوضت هيبة طهران الإقليمية.

بالتوقيت فإن الاستهداف جرى فى اليوم الأول للرئيس الإصلاحى «مسعود بزشكيان»، كأنه محاولة لقطع الطريق على رهانه الانتخابى فى تحسين العلاقات مع الغرب.

وبالموقع فإنه جرى بأحد المبانى التابعة للحرس الثورى، كأنه رسالة أخرى تطعن فى الإجراءات الأمنية وتشكك فى اختراقها.

بقدر آخر مثل اغتيال «شكر» فى الضاحية الجنوبية بالعاصمة بيروت، قلعة «حزب الله»، انتهاكا لكل الخطوط الحمر فى قواعد الاشتباك وتحديا لقدرته على الردع.

فى الحدثين المتعاقبين نذير بعودة الاغتيالات المنهجية، التى أخذت مداها عند مطلع القرن بالنيل من مؤسس «حماس» الشيخ «أحمد ياسين» وبعده «عبدالعزيز الرنتيسى» أقوى رجالها، وعدد كبير آخر من القيادات السياسية والعسكرية فى العمل الوطنى الفلسطينى، كان أخطرها الوصول بالسم إلى زعيم منظمة التحرير الفلسطينية «ياسر عرفات».

العودة إلى الاغتيالات المنهجية يفسح المجال واسعا لعودة مضادة ونشوء منظمات فلسطينية تتبنى خيار التصفيات الجسدية على النحو الذى كان شائعا فى سبعينيات القرن الماضى.

عكس «هنية» لم يكن «شكر» وجها مألوفا فى الحياة العامة، رغم مكانته العالية فى صلب القرار العسكرى والسياسى للحزب.

استخدمت ذريعة الانتقام لمقتل اثنى عشر طفلا درزيا فى «مجدل شمس» بالجولان المحتل لشن غارة على الضاحية الجنوبية نالت من أبرز قياداته العسكرية، الذى تتهمه واشنطن بمسئولية الهجوم على مقر مشاة البحرية الأمريكية فى بيروت عام (1983).

يستلفت النظر أن إسرائيل رفضت أى تحقيق دولى فى حقيقة واقعة «مجدل شمس» ومضت بعيدا بالاستثمار السياسى لإثارة الفتن بين العرب الدروز والعرب الآخرين، وبين الدروز أنفسهم.

أجهضت الفتنة من دروز الجولان وأهالى الأطفال الضحايا، طردوا وزير المالية المتطرف «بتسلئيل سموترتش» من المشاركة فى الجنازة ورفضوا أن يجمعهم مشهد واحد مع رئيس الوزراء الإسرائيلى «بنيامين نتنياهو».

كان دور الزعيم الاشتراكى الدرزى اللبنانى «وليد جنبلاط» حاسما فى وأد الفتنة المستهدفة.

أعطى تعليمات مشددة بحسن استقبال أى نازحين من الجنوب حيث يتمركز الشيعة إلى الجبل حيث يتمركز الدروز إذا ما اضطروا إلى ذلك بضغط أية عمليات عسكرية إسرائيلية واسعة محتملة.

تبدت فى المشهد مفارقتان كبيرتان، أولهما، حديث اليمين المتطرف عن دروز الجولان كمواطنين إسرائيليين فيما أغلبهم لا يحملون جنسيتها ويعتبرون أنفسهم عربا ينتمون إلى سوريا لا إلى غيرها فضلا عن أن الجولان نفسه أرض سورية محتلة وفق القانون الدولى!

وثانيهما، مع فداحة كارثة «مجدل شمسس إلا أنها لا تقاس بأعداد الشهداء والمصابين فى قطاع غزة وجرائم الحرب والإبادة التى يتعرض لها أهله بيد القوات الإسرائيلية.

إثر الاغتيالين المتعاقبين خيمت سيناريوهات عديدة للرد، بعضها يتحدث عن عملية منسقة لها دوى وأثر تعيد من جديد معادلات الردع بين إسرائيل وإيران إلى الأوضاع التى بدت عليها إبريل الماضى.

لكل ضربة رد فعل عليها، ولكل عمل داخل الحدود فعل مضاد داخل الحدود الأخرى.

هذا ما سوف يحدث، بصورة أو أخرى، لكن دون أن يكون واضحا حتى الآن طبيعة الرد وحدوده، جامحا بقدر خطورة الاغتيالين أم رمزيا حسبما تضغط دوائر أمريكية وأوروبية عديدة.

بأثر اغتيال «هنية» يصعب الحديث بأى مدى منظور عن استئناف المفاوضات غير المباشرة فى القاهرة والدوحة بين «حماس» وإسرائيل.

لم يكن معقولا اغتيال المسئول السياسى الفلسطينى الأول أثناء المفاوضات إلا أن يكون مقصودا نسف أية رهانات على وضع حد للحرب فى غزة بصفقة تبادل للأسرى والرهائن.

بالضبط هذا ما يريده «نتنياهو» لأسباب تتعلق بمستقبله السياسى وطلبه إدامة الحرب وتوسيعها حتى يحقق ما يسميه بـ«النصر المطلق».

بأثر اغتيال «شكر» تتباعد أية احتمالات لتهدئة الجبهة الشمالية الإسرائيلية وعودة آلاف الأسر إلى المستوطنات التى اضطروا لمغادرتها.

بالاغتيالين حاز «نتنياهو» مكسبا يثبت مكانته السياسية داخل الرأى العام الإسرائيلى بعدما اهتزت بشدة بعد أحداث السابع من أكتوبر (2023)، لكنه هش بأى حساب استراتيجى وتداعياته لا يمكن التحكم فيها.

ربما أفضى الاغتيالان إلى رد اعتبار الأجهزة الاستخباراتية الإسرائيلية، التى تضررت تماما، لكنه جاء منقوصا ومشكوكا فيه بالنظر إلى الدور الأمريكى الذى وفر المعلومات التفصيلية والتقنيات الحديثة التى استخدمت رغم نفى واشنطن المتواتر لأية صلة، أو علم مسبق باغتيال «هنية».

كان ذلك النفى تعبيرا عن خشية أن تفلت ردات الفعل إلى حرب إقليمية لا تريدها وتضر بمصالحها لا إقرارا بالحقيقة.

حاولت الإدارة الأمريكية التحكم المسبق فى مسار المواجهات المحتملة بعد تحقيق أهداف الاغتيالين.. مرة بالتأكيد أن هناك فرصا لوقف الحرب على غزة وإتمام صفقة التبادل.. ومرة أخرى بالتحذير من عواقب وتداعيات الحرب الإقليمية المحتملة.

فى السياق جاء اغتيال «شكر» و«هنية» إثر اقتحامات لمتظاهرين من اليمين المتطرف، بدعم من وزراء فى حكومة «نتنياهو»، لقواعد عسكرية فيما يشبه الانقلاب على مركزية الجيش فى بنية الدولة حسب تصريح لافت لزعيم المعارضة «يائير لابيد».

استهدفت الاقتحامات منع محاكمة جنود ارتكبوا جرائم مروعة بحق أسير فلسطينى وصلت إلى هتك العرض والاغتصاب.

كان القصد الإيحاء بأن هناك دولة قانون تحقق فى وقائع أسهبت فى كشف فظاعتها المنظمات الحقوقية الدولية، لا إجراء محاكمة حقيقية، غير أن اليمين الإسرائيلى المتطرف حاول أن يؤكد سطوته ونفوذه وأنه لا ملاحقة لمن يقتل أو يعذب الفلسطينيين.

ما بدا خطيرا فى تلك الاقتحامات سقوط هيبة الجيش الإسرائيلى نفسه.

ربما كان ذلك سببا إضافيا من حيث التوقيت للاغتيالين المتزامنين لاستعادة الهيبة المفتقدة.

الحسابات ملغمة وسيناريوهات الحرب الإقليمية الواسعة محتملة أكثر من أى وقت مضى.

معضلة السياسة الأمريكية إنها توفر لإسرائيل الغطاء السياسى والاستراتيجى اللازم لانتهاك كل القواعد القانونية الدولية دون رادع وتحذر الطرف الآخر من الانزلاق لحرب إقليمية دون اعتبار لمصالحه وهيبته.

إنها وصفة انفجار إقليمى نذره ماثلة.

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved