معركة نحن فى غنى عنها
أهداف سويف
آخر تحديث:
الجمعة 5 سبتمبر 2014 - 4:41 م
بتوقيت القاهرة
ورحل أحمد سيف عنّا عصر يوم الأربعاء ٢٧ أغسطس، ومحبوه يتوافدون إلى طرقة الدور الرابع فى مستشفى المنيل التخصصى، وكل من يأتى ينتظر مع المنتظرين، إلى أن أخرجوه إلينا فى صندوق معدنى أسطوانى لامع يشبه أكثر ما يشبه كبسولة فضاء فى فيلم من أربعينيات القرن الماضى، بدا مناسبا لانطلاقته الجديدة التى بدأها فتبعناه فى موكب جنائزى تلقائى أوصله إلى المصعد ثم جرينا هابطين الأدوار الأربعة لنستقبله فى الأرضى وننتظم وراءه وفى مقدمتنا ليلى سويف ومنى سيف وفراغ جارح فى الكون مكان علاء عبدالفتاح وسناء سيف. سار عاملو المستشفى يدفعون التروللى بخطوات وئيدة ونحن، قرابة مائتى شخص، نتبعه عبر ممرات وطرق قصر العينى، والمارة يتوقفون للحظة ليرسلوا دعواتهم تشد من أزر هذا المسافر فى فضائه الجديد. وصلنا إلى باب الثلاجة فتوقف الموكب. والثلاجة، بتصميم رحيم، ملاصقة لمسجد المستشفى، فوجدنا أنفسنا نقف فى حضرة المسجد والمئذنة فى اللحظة التى ارتفع فيها الأذان يدعو إلى صلاة المغرب، وتبدلت إضاءة المشهد ففقدت كل خشونة وصارت لينة حنون.
وبرحيل أحمد سيف تصاعد الخط الدرامى فى القصة التى تعيشها أسرتنا وسط قصص آلاف الأسر المصرية. الخميس توجهنا للمدافن، وجاءتنا الداخلية بعلاء وسناء ليحضرا دفنة أبيهما الذى رحل دون أن يودعاه أو يودعهما. علاء مضرب عن الطعام منذ ١٧ أغسطس، و سناء ــ فى المدفن ــ أخبرت ليلى ومنى أنها أيضا بدأت فى الإضراب. كتبت منى: "قرار الإضراب (سناء) أخذته بعد زيارة بابا فى المستشفى لما كان فى غيبوبة.. رحيل بابا و هى بعيدة عنه وحرمانه من صحبتها فى أيامه الأخيرة حسم الأمر، فبدأت فعلا سناء اضرابها بشكل رسمى ٢٨ أغسطس.. ولأنها بنت أحمد سيف، ولأنها متعلمة منه، سناء أكدت علينا أكتر من مرة انها مش عايزة الناس يتعاملوا معاها على انها حالة انسانية متفردة، وانها مش معنية فقط بخروجها وخروج علاء ورفاقهما، لكن بخروج كل الآلاف المحبوسين ظلم، وانها هتكمل ضغط بإضرابها من جوة السجن، او بفاعليات وتحركات احتجاجية ضاغطة ــ إن خرجت ــ من أجل حريتهم كلهم. الحرية لكل مظلوم نعرفه أو ما نعرفهوش".
وهكذا انضمت سناء سيف إلى معركة الأمعاء الخاوية التى تدور فى السجون المصرية اليوم، والمعركة الآن تشمل أحمد سلطان (٢٢١ يوما) وإبراهيم اليمانى (١٤٠ يوما)، وأحمد المصرى (٥٧ يوما)، ومحمد الغندور (٤٧ يوما)، وعبدالله غريب (٤٠ يوما)، ومجدى خليفة (٣٥ يوما)، وهند منير ورشا منير (٢٧ يوما)، وعلاء عبد الفتاح (١٧ يوما)، وإبراهيم السيسى (١٤ يوما)، وضياء مهدى وكريم عبد الستار ومؤمن حمدى ورفعت الشافعى وعلى دياب وحسن غنيم وعبقرينو (١٢ يوما)، ومصطفى فتحى زيدان وأحمد جمال زيادة (١٠ أيام)، ونوبى (٨ أيام)، وميزا وسناء سيف وهشام ممدوح (٧ أيام).
هذه الإضرابات كلها احتجاج على ما يستشعره المحبوسيون من ظلم، وهى الوسيلة الباقية أمام السجين لتفعيل إرادته والضغط لتحقيق مطالبه. لا أدرى، حقيقة، إن كانت ستأتى بنتيجة مع الحكومة الحالية فى الظروف الحالية. فالدولة بأجهزتها، تبدو مصرة على سياسة قمع غريبة الشراسة سواء فى مواجهة الشباب المحبوسين أو الطلقاء إلى حين. أقول غريبة لأننى لا أفهم لها سببا معقولا.
الدولة تمسك بيدها زمام الأمور، وتفعل ما يحلو لها فى المجال الاقتصادى الذى يؤثر فى مقدرات البلاد، فهى تتفاوض من أجل القروض والتمويلات والمساعدات، وتوقع العقود، وتنشئ المشروعات والصناديق، وترفع مبانى من قوائم تراثية وتسقط أطنانا من الخرسانة والطوب حيث يحلو لها وتبيع وتشترى وترهن فى البلاد دون أى إشراف أو محاسبة. وهى تتحكم بشكل شبه مطلق فى الإعلام ــ وبالذات المرئى ــ الذى يسكب على الناس خطابا واحدا، ومشاهد وأغانى واضحة ومسطحة الهدف ليلا نهارا.
فى ظل كل هذا، كل هذه المقدرة والتحكم، ماذا يضيرها ــ مثلا ــ أن يذهب عشرة من الشباب، أحدهم يصطحب ابنه ذا الخمسة أعوام، ليزوروا أهل صديقهم الذى استشهد على يد الداخلية منذ عام، فيواسونهم فى سنويته ويشعرونهم أنهم ليسوا وحدهم؟ كريم طه، محمد كمال، إمام فؤاد، خالد إسماعيل، محمد فاروق، أحمد على، حسن سعيد، رامى سيد، عبد المجيد سيد وأحمد طه: "شباب وقفوا على ناصية شارع فى بولاق الدكرور يجمعون أنفسهم للقاء والدة الشهيد أحمد المصرى فى الذكرى السنوية الأولى لاستشهاده برصاص الداخلية. فما كان من قوات الأمن إلا أن اعتقلتهم ونقلتهم فى بوكسات إلى قسم بولاق الدكرور، ليبدأ مسلسل انتهاكات الداخلية، التى باتت معتادة، بدءاً من إنكار وجودهم داخل القسم لمنع المحامين من الدخول، إلى توقيف المعتقلين لساعتين كاملتين وجههم للحائط فى انتظار ورود معلومات عليا عن كيفية التصرف معهم.. تحول المعزون إلى متهمين فى المحضر رقم ٢١٤٤٢ جنح بولاق الدكرور لسنة ٢٠١٤، والتهم جاهزة: التجمهر وقطع الطريق والتظاهر بدون ترخيص واستخدام ألعاب نارية لترويع المواطنين وحيازة مفرقعات؛ والأحراز عبارة عن لاب توب وبوسترات وسنارة وتى شيرتات عليها صورة الشهيد أحمد المصرى وشمروخ ألوان. بعد ساعات من الانتظار.. علم المحامون من أحد العساكر أنه قد تم ترحيلهم إلى معسكر الأمن المركزى فى الكيلو عشرة ونصف، وهو مكان احتجاز لا يتبع مصلحة السجون ويحظر دستور ٢٠١٤ احتجاز المواطنين به! بذهاب المحامين، علموا أن التحقيق الأهم قد بدأ فعليا فقد كان الأمن الوطنى فى انتظار وصول معتقلى العزاء!" (من صفحة "الحرية للجدعان").
وفى اليوم التالى اعتقل الزميل مصطفى كاجو بعد إيقافه وتفتيشه عند محطة مترو الأهرام وعثور الشرطة معه على رسالة من المعتقل أحمد جمال زيادة. وجهوا لمصطفى تهم الانضمام إلى حركة ٦ أبريل والدعوة للتظاهر للإفراج عن المعتقلين، وقررت نيابة مصر الجديدة حبسه حتى استيفاء تحريات الأمن الوطنى. عندنا أيضا أربعة شباب قبض عليهم فى الإسكندرية لرسمهم جرافيتى "الحرية لإمام" (أحد معتقلي العزاء) فى الشاطبى، وغيرهم. وهذه حصيلة يومين فقط.
طيب ليه؟ تكاد كل الحركات الاحتجاجية حاليا تترك الشأن الاقتصادى وحتى السياسى للمتحكمين فيه وتحصر نفسها فى المطالبة بالمعاملة الآدمية لمن يحتجز وبالحرية للمعتقلين، فلماذا كل هذا العنف فى التعامل معها؟ أليس عند الدولة ما يكفيها وهى تواجه قطاعا من مواطنيها اتجه للإرهاب؟ لماذا تستعدى قطاعا آخر؟ أم هل نحن إزاء استراتيجية تهدف إلى إدخال الجبهات فى بعض لكى يتوهم الرأى العام إنها كلها حاجة واحدة وأن الذهاب للعزاء مثله مثل تفخيخ سيارة؟ أم هى استراتيجية طمس الحقائق وفرض عالم متخيل؟ القبض على الشباب العشرة فى بولاق الدكرور واستجواب الأمن الوطنى لهم لن يغير من حقيقة أن الداخلية قتلت أحمد المصرى، وأن أهله وأصدقاءه ورفاق الطريق يذكرونه، وأن حقه ــ وحق الآلاف ــ لم يأت بعد.
الاحتجاز الظالم والحبس الممتد وفقدان الثقة فى منظومة العدالة ــ كل هذا مع تقلص مساحة التعبير عن الرأى والاحتجاج والمطالبة، سيؤدى فيما أعتقد لأن يتبنى أعداد من المواطنين الطلقاء سلاح المحبوسين تضامنا معهم. بالأمس ظهرت على النت مجموعة نصائح لمن يستعدون للإضراب، نوردها هنا لتعميم الفائدة:
تكون مدة الاستعداد مسأوية لنصف مدة الصيام على الأقل، مثلا اذا كانت مدة الصيام ٤ أيام تسبقها مدة استعداد يومان، وللاضرابات التى تستمر أكثر من ٤ أيام تكون مدة الاستعداد المثالية أسبوع. هذه الاستعدادات تكون من أجل الثبات العقلى وللتخلص التدريجى من الطعام.
توقف عن تناول السكر، الكافيين، التبغ (التدخين)، الكحوليات، وأى عقاقير منشطة.
انتقل من الوجبات الكبيرة إلى ٥ أو ٦ وجبات خفيفة موزعة على مدار اليوم.
تجنب الأطعمة المقلية، وقلل من الأغذية المعقدة، مثل المكرونة بالبشاميل، واستبدلها بأغذية أبسط، مثل المكرونة المسلوقة. تناول كميات أقل فى الوجبة، فيصبح النظام الغذائى أكثر بساطة وتوزيعا. تناول الوجبة البسيطة قبل أن تشعر بالجوع لتتجنب ان تأكل كثيرا لتشبع.
على آخر فترة الاستعداد يفضل ان تكون الوجبة صنفا واحدا فى كل مرة، مثلا جزر فقط، عصير فقط، وبكمية قليلة.
توقف عن تناول اللحوم الحمراء والمنتجات الحيوانية (بما فى ذلك منتجات الألبان والبيض) آخر يومين من فترة الاستعداد.
يكون الاضراب أيسر على الذين استطاعوا أن يسبقوه بـ٣ أو ٤ أيام لا يتناولون فيها الا الخضراوات والفواكه.
خلال مدة الاستعداد أكثر من تناول السوائل: العصائر الطبيعية (دون سكر)، الشوربة، شاى الأعشاب، والماء. ينبغى زيادة استهلاك الماء الى ٣ أو ٣ ونصف لتر فى اليوم. أضف الأملاح للماء للحفاظ على الوظائف الحيوية، وهذه وصفة بسيطة: ٢ لتر ماء + ملعقة كبيرة سكر أو عسل + ١ ملعقة صغيرة بيكربونات الصوديوم + ١ ملعقة صغيرة ملح + نصف ملعقة صغيرة من بديل الملح (ملح لايت).
كما أعلنت مجموعة من الأباء أنها ستتعاون مع المضربين عن الطعام بالإشراف الطبى عليهم.
هل علينا فعلا أن نمر بكل هذا؟ لا نطلب من الدولة، فى هذه اللحظة، إلا احترام دستورها. قانون التظاهر غير دستورى وكل من هو محبوس بمقتضاه محبوس ظلم. الشباب اللى متلفق له تهم محبوسون ظلما. الشباب المحبوسون بدون تهمة، الشباب المحبوسون احتياطيا شهورا - كل هذا ظلم، ظلم، ظلم لا داعى له. الدولة عندها كل حاجة، عندها حق التعاقد والبيع والشراء، وعندها السلاح، وأجهزة الأمن، والوزارات والهيلمان والسياسة الخارجية وكل حاجة. لماذا تريد أن تمتلك عقول وقلوب وألسنة الشباب بدون وجه حق؟ فى النهاية، ومهما تكن الأوضاع، تظل الحقيقة: إحنا مش فى الجيش.