بين موت الضمير وصحوة الإرادة
علي محمد فخرو
آخر تحديث:
الجمعة 4 سبتمبر 2015 - 7:25 ص
بتوقيت القاهرة
فى اللحظة الراهنة يعيش الوطن العربى ظاهرتين متقابلتين ومتناقضتين فى تأثيرهما على مستقبل هذه الأمة.
أما الظاهرة الأولى، الباعثة على الغضب واليأس، فتتمثل فى جحيم القنوط وقلة الحيلة الذى يعيشه الإنسان العربى بسبب تداعيات موت الضمير وتعفن المشاعر الإنسانية لدى القوى الدولية والإقليمية والعربية الفاعلة والمهيمنة على المشهد السياسى والأمنى المأساوى العربى كما يتجلى على وجه الخصوص فى أقطار من مثل سوريا والعراق وليبيا واليمن.
فتلك القوى قد حسبت حسابات خاطئة ولعب بعضها أدوارا تخريبية خبيثة، مما أدى إلى وصول بعض الأقطار العربية إلى الحالة الكارثية التى نشاهدها ماثلة أمامنا.
من خلال الإغداق بالمال والمعدات العسكرية والوسائل اللوجستية والتدريب من قبل قوى أمنية استخباراتية لشتى صنوف الحركات الجهادية التكفيرية شوهت ودمرت تلك القوى حراكات وثورات شعبية، وهمشت الثوار الحقيقيين الصادقين، ومن ثم وضعت العديد من الأقطار العربية فى أيادى قوى همجية لئيمة أحالت تلك الأقطار إلى صحارى قاحلة فى السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة والعمران.
تلك القوى ترى وتسمع، يوميا وعبر سنين، آلام وأنين الملايين العرب، رجالا ونساء، شبابا وشابات وأطفالا، وهم يواجهون فى مناطق سكنهم الجوع والعطش والمرض والعيش فى العراء وفقدان كل ما يملكون. والمحظوظون منهم يفلحون فى الخروج من ذلك الجحيم ليهيموا على وجوههم عبر العالم كله، إما فى مخيمات البؤس والذل والعوز واليأس القاتل، وإما فى قوارب الموت التى تبحر بهم عبر البحار والمحيطات فيموت من يموت ويعيش من ينجو ليواجه أهوال الغربة كلاجئ غير مرحب به وكإنسان بلا مستقبل ولا هوية ولا أمل.
فإذا كان قسم كبير من ذلك المشهد هو نتيجة لحسابات خاطئة وقرارات كارثية من قبل تلك القوى، وبعضها يعترف بذلك، أفلا يكون منطقيا أن تبادر تلك القوى، وفى الحال، وبأقصى سرعة، بتصحيح ما فعلته بملايين الأبرياء العرب؟
لكن ذلك لا يحدث. وبدلا منه نشاهد يوميا مسرحيات الادعاءات والكذب: زيارات متبادلة بين مسئولى تلك القوى، جلوس حول طاولات المفاوضات للتأكد من أن الجيفة العربية سيتقاسمها الجميع بتوازن وبلا غالب أو مغلوب، تتبعها تصريحات تبشر العرب بقرب الفرج، والفرج لا يأتى، ويبقى الملايين من العرب يواجهون الموت أو العيش فى المنافى، وتصبح مدن العرب الكبرى أنقاضا تنعق فيها الغربان.
وهكذا يواجه العرب تداعيات ونتائج موت الضمير والحس الإنسانى عند من لا يعرفون طرق التكفير عن الذنوب وتصحيح الظلُم الذى ألحقوه بضحاياهم.
***
من هنا الأهمية الكبرى لمشهد الظاهرة الثانية، الباعثة على الأمل، التى تتمثل فى مظاهرات ساحات مدن العراق ولبنان الآن، والتى، طال الزمن أو قصر، ستشمل أجزاء أخر من وطن العرب.
قيمة هذه المظاهرات أنها تجل جديد لروح الربيع العربى حتى ولو كانت مطالبها تبدو ظاهريا بأنها محدودة ونفعية. ذلك أن الربيع العربى كان فى بداياته نتيجة انبعاث جديد لروح وإرادة الأمة وهما يتجليان فى أشكال كثيرة من الفعل الجماهيرى فى ساحات مدن العرب.
إننا أمام تجل جديد لنفس الروح ونفس الإرادة وهما يقفزان من جديد بشباب وشابات الربيع العربى فوق بلادات الانقسامات الطائفية والقبلية وكل أنواع الولاءات الفرعية غير الوطنية وغير القومية وغير الإسلامية. وهما أيضا يتحديان فرح وزغاريد من أشاعوا بأن الربيع العربى، ربيع انبعاث روح النهوض من التخلف التاريخى وارادة التمرد على التسلُط والانتقال إلى الديمقراطية، بأن ذلك الربيع قد دخل فى مرحلة سكرات الموت وبشروا بأن خريف الذل سيعود، لتعود أرض العرب أرضا للفساد والاستباحة.
***
نحن أمام مشهدين إذن، أحدهما يعلن موت الضمير الدولى ويعلن عن سقوط أخلاقى مريع لإرادة وروح الحضارة، والآخر يعلن عن صحوة الضمير الجماهيرى وتجدُد إرادتها.
إن الحراك فى العراق ليس فقط من أجل حل مشكلة الكهرباء، والحراك فى لبنان ليس فقط من أجل حل مشكلة النٍفايات فى الشوارع. ذلك ما يتمناه المشككون فى ما يختزنه الإنسان العربى من قدرات وإبداع، هما حصيلة تاريخ طويل من الثورات والتمردات التى لم تخمد قط إلا لكى تشتعل من جديد.
شباب وشابات هذه الأمة لن ينتظروا صحوة الضمير الدولى وخروجه من غرف الإنعاش. سيقفزون فوق الساسة الانتهازيين والتوازنات الدولية والاقليمية، فوق مؤامرات الاستخبارات، فوق ظاهرة الهمجية التكفيرية المؤقتة، وسيستمرون فى مسيرة الربيع الذى بدأوه، وسيثبتون أن هذه الأمة تستحق الحياة.