عندما استقلت ليبيا عام 1951 واعتمدت النظام الفيدرالى للحكم، وكان ولازال فى اعتقادى أكثر الأنظمة موائمة لظروفها الخاصة، تشكلت الدولة الليبية الوليدة من ثلاث ولايات: طرابلس فى الغرب المجاور لتونس والجزائر، برقة فى الشرق على الحدود المصرية، فزان فى الجنوب، ثم تم إلغاء النظام الفيدرالى ودمج الولايات الثلاثة فى كيان واحد بدعوى عدم تكريس الانقسام.
وفى رأيى أن الفيدرالية قد تشكل حلا لكثير من مشاكلنا فى العالم العربى ولكن للأسف فإنه ينظر إلى ذلك على أنه تقسيم للدول العربية وتفتيت لوحدته الإقليمية وتنفيذ لمؤامرات استعمارية وصهيونية، ولكنى أرى عكس ذلك، ولو أن العراق منح الأكراد فى الشمال والشيعة فى الجنوب حكما ذاتيا فى نطاق دولة فيدرالية لتجنب التقسيم الذى لا محالة قادم لتجنب الطائفية المقيتة والكراهية العميقة التى زرعت فى النفوس نتيجة لسنوات من قهر صدام حسين وأسلافه للشيعة والأكراد. ولكن يبدو أننا فى عالمنا العربى نفضل أن نرى الطوائف تفجر مساجد بعضها البعض ولا نراها تعيش فى دولة فيدرالية. فهل النظام الفيدرالى أضعف ألمانيا أو أدى إلى انقسامها، أو ماليزيا أو الولايات المتحدة الأمريكية؟
***
وبالنسبة إلى ليبيا فقد عادت بالفعل إلى نظام الولايات الثلاث، فالسلطة فى الشرق للفريق خليفة حفتر المعين من قبل برلمان طبرق، بينما سلطة حكومة الوفاق الوطنى المعترف بها من قبل الأمم المتحدة التى يرأسها فايز السراج تكاد تقتصرعلى طرابلس وبنازعه فيها حكومة الإنقاذ الوطنى (الإخوان) والعديد من زعماء الجماعات المسلحة القبلية أو الجهادية، بينما فزان بمنأى نسبيا عن الصراعات وعقدت أخيرا مؤتمرا لما أسمته قبائل الجنوب.
إذن بوضع الـ «de facto» قد أعاد ليبيا إلى الفيدرالية لكنه وضع غير مقنن وباعتقادى أن نجاح الفريق حفتر ومساعدة مصر عسكريًا والإمارات ماليًا، فى السيطرة على الجزء الأكبر من إقليم برقة، قد أدى إلى بدء الاعتراف به دوليًا كعنصر أساسى فى أى تسوية للمشكلة الليبية، فقد تمثل هذا الاعتراف بدعوة الرئيس الفرنسى ماكرون له وللسيد فايز السراج لحضور مؤتمر مصالحة فى باريس وكان ذلك حدثا هاما غير الكثير من المعطيات. وفتح باب الشرعية الدولية على مصرعيه لخليفة حفتر، وأجبر إيطاليا على إعادة النظر فى موقفها المعادى له، وأصبح مطلب إعادة النظر فى اتفاقية الصخيرات التى أضفت الشرعية الدولية على حكومة الوفاق الوطنى برئاسة السراج قريب المنال خاصة بعد إعلان الأمم المتحدة ممثلة فى مبعوثها الخاص السيد غسان سلامة بجلاء تأييد الأمم المتحدة للموقف الفرنسى القاضى بوجوب إشراك الجنرال حفتر فى جهود حل الأزمة، وهناك ملاحظة أخرى جديرة بالاهتمام وهى أن غسان سلامة أعلن ذلك فى مؤتمر صحفى مشترك فى روما مع ألفانو ــ وزير خارجية إيطاليا ــ الذى أعلن أن «إيطاليا تؤيد قيادة الأمم المتحدة لهذه الجهود لتجنب المبادرات المرتجلة»، فى إشارة واضحة لمبادرة ماكرون.
***
فى الواقع أن اجتماع باريس أعطى الفريق حفتر الشرعية الدولية التى كان يفتقدها (بعدها زاره جونسون وزير خارجية بريطانيا واجتمع به فى بنى غازى)، كما منح فرنسا وضعًا مميزًا وسلب إيطاليا الكثير من وضعها التاريخى والتقليدى.
بالرغم من أن روابط ليبيا بإيطاليا أكثرعمقا ورسوخا وتشعبا (إيطاليا بالنسبة لليبيين هى أوروبا)، بالرغم من ذلك فإن مشاعر المرارة لدى الليبيين بسبب ممارسات الحقبة الاستعمارية موجودة تحت السطح. فعندما وافق السراج على السماح للأسطول الإيطالى بالوجود فى المياه الليبية لمعالجة مشكلة الليبيين كان رد الفعل الشعبى شديدًا مما جعل السراج يتراجع وينكر أنه أعطى الموافقة، أما الفريق حفتر فقد أعلن أن قواته ستواجه السفن الإيطالية إذا انتهكت المياه الإقليمية الليبية.
كان من نتيجة بزوغ نجم الفريق حفتر على الساحة الدولية والاعتراف بأهمية إشراكه فى التسوية النهائية، أن طغى الخلاف الفرنسى الإيطالى على السطح فقد حفل الإعلام الإيطالى بانتقادات شديدة لحكومة جينتيليونى لفشل سياستها تجاه ليبيا مما سمح لفرنسا لتولى مقعد القيادة وسلبت إيطاليا دورها التقليدى فى منطقة نفوذها التاريخى. ولكن تهميش دور إيطاليا ــالتى تنظر بريبة للفريق حفترــ وتولى ماكرون الحكم فى فرنسا الذى أعلن (فور توليه الرئاسة أهمية إشراك حفتر فى التسوية) ثم تعيين «غسان سلامة» كمبعوث للأمم المتحدة بعد أن ظل المنصب شاغرا لبعض الوقت، وتأييد سلامة للموقف الفرنسى تجاه حفتر، كل ذلك يصب فى صالح التسوية النهائية للأزمة.