نصوص من تاريخنا بعلم الوصول
سيد محمود
آخر تحديث:
الأربعاء 4 سبتمبر 2019 - 11:55 ص
بتوقيت القاهرة
لا يملك احد منا تفسيرا لهذا الهوس الذى استجد فى أيامنا بالماضى ولعل بؤس الحاضر هو الذى يرمى الناس فى دوائر الحنين إلى ما فات حتى لو لم يكن هذا الماضى يخصهم على الإطلاق.
ومنذ سنوات تعرفت على كاتب جميل من الاسكندرية هو عبدالعزيز السباعى لعله اول شخص فى حياتى كان يشترى رسائل وخطابات قديمة، فقد كنّا ذات نهار نسير معا فى شارع النبى دانيال بالإسكندرية وسط تجار الكتب القديمة فنادى عليه بائع ربما كان من تلاميذه واعطاه رزمة من الخطابات وما زلت أتمنى لو ان «زيزو» نشر المجموعة التى يملكها او جلس لكتابة رواية عّن مصائر متخيلة لأبطالها الذين رافقهم لسنوات، ولا يزال صديقى الكاتب والمنتج السينمائى حسام علوان ينشر على صفحته عبر «فيس بوك» بعض الخطابات التى يشتريها من سوق الامام الحافل بما لذ وطاب.
وشخصيا املك صورا لخطابات نادرة وتلغرافات تشمل رسائل لطائفة من الذين تم اعتقالهم بتهمة تأسيس أول حزب شيوعى مصرى تم حظره بنص من قانون العقوبات ولا أعرف لماذا تكاسلت عن نشرها إلى الآن رغم ما تتضمنه من معلومات.
ومن قرأ رواية «بريد الليل» للكاتبة اللبنانية هدى بركات لا شك انتبه لمشاهدها الاخيرة التى تتحدث عّن (موت البوسطجى) وما يعانيه فى أيامنا بعد أن أصبحت الرسائل الالكترونية مخزنا لكل ما نفعله فى أيامنا رغم ان لعبة الرواية قامت على فض بكارة الرسائل الورقية وهو ما فعله كتاب (بعلم الوصول) الذى أصدرته دار الشروق للكاتب والمذيع الشاب أحمد خيرالدين واجمل ما فيه انه يضعنا مباشرة امام سؤال عّن مصير الرسائل الالكترونية التى نكتبها بغزارة وصارت هى المدونة الرئيسة لحياتنا وربما تساءلنا عن المؤرخ الذى سيأتى ذات يوم ليكتب تاريخنا ويجمعه من ركام إلكترونى محصن ضد الحنين.
يلعب خير لعبة المؤرخ فى اعادة تشييد الماضى بحذر بالغ لكنه دون ان يدرى يتورط فى الكتابة التاريخية بالمعنى الذى صارت عليه الآن رسوخ مفهوم «التاريخ من أسفل» فى حقل الدراسات التاريخية، حيث تركز اهتمام المؤرخين الجدد على نماذج من الناس العادية لكتابة تاريخهم غير انه لا يلعب دائما دور المحقق ويترك للمادة التاريخية حرية التدفق والجريان أمام القارئ ليلمس عذوبتها كما يليق بنهر جارف له منابع عديدة وأكثر من ذاكرة تتقاطع فيها الأزمنة والامكنة.
ويفسح الكتاب المجال واسعا امام اعادة تعريف المادة التاريخية، التى كانت فى الماضى تعتمد على كل ما هو رسمى وتستبعد ما هوغير ذلك، فالكتاب يقوم على جمع باقات من الرسائل جمعها الكاتب من مصادر مختلفة وأسواق مختلفة وصنفها وتابع ترميم وقائعها فى مجموعات أخرى حتى انتهى إلى صيغة الكتاب الذى يمكن اعتباره جدارية كبيرة تتتابع فيها المشاهد التى يمكن عبرها «شم» روائح الماضى وتلمس مشاعر صانعيه من البسطاء، إلى جانب الكشف عن طبيعة ما عاشه المصريون من تغييرات
بداية من الحالة الصحية، مرورا بالاحوال العاطفية وصولا للأوضاع الاقتصادية والاثمان الفادحة التى تم دفعها فى موجات الهجرة التى نكتشف تنوعها وتواصلها ربما على مدى اكثر من نصف قرن.
تبدو الرسائل احيانا كحديقة خلفية لعلاقات غرامية بريئة وعلاقات أخرى مؤثمة اجتماعيا لذلك تغلب عليها نبرة الكشف والاعتراف كما ترتفع فى سطورها فوائض البلاغة وفروضها المدرسية من عبارات انشائية كان يتم تمريرها.
وعبر الكتاب يمكن بسهولة اكتشاف المكانة الروحية التى بلغتها أم كلثوم، حيث تسربت مفرادت ومواعيد حفلاتها إلى خطاب الحياة اليومية وهو امر انتبه اليه خيرالدين ورأى فيه تكذيبا للخطابات التى اعتبرتها نصا سلطويا.
ورغم ندوب كثيرة يلمسها الكتاب فى الشخصية المصرية تبقى نصوصه شاهدة على نوعية الحياة التى عاشها الناس صعودا وهبوطا، ومن اللافت أن المجال كان واسعا أمام الطبقة الوسطى لتحلم بالتغيير أو تصنع أفقها الحداثى بحرية مطلقة، فالنصوص تشير بوضوح إلى تعمق ثقافة الترفيه وارتياد المسارح ودور العرض السينمائى وحفلات الغناء حتى فى المدن الصغيرة خارج القاهرة التى لعبت ادوارها بفاعلية لم تعد موجودة الان، فتهميش تلك المدن لصالح العاصمة المركزية هو الذى سهل مهمة اختراقها بالافكار المتطرفة، فالتهميش بدأته الدولة وأرادته كما يقول الكتاب بوضوح.
فخلال الخمسينيات كان الصعود الاجتماعى لـ«الجماهير الغفيرة» بتعبير الراحل جلال أمين وهذه هى الطبقة التى عرفت المصايف والسينما وكرة القدم لكنها الآن عاجزة عن الصمود أمام موجات متلاحقة من الاكتساح.