إلى أين وصلنا؟

توماس فريدمان
توماس فريدمان

آخر تحديث: الأحد 4 أكتوبر 2009 - 10:03 ص بتوقيت القاهرة

 أكره الكتابة عن هذا الأمر، لكنى شاهدت هذه المسرحية مرارا وتكرارا، وكانت حقا مزعجة.
كنت فى إسرائيل عام 1995 أجرى حوارا مع رئيس الوزراء إسحق رابين قبل اغتياله مباشرة.

وقد كانت لديه زجاجات بيرة فى مكتبه، حيث قال لى إنه كان يحتاج إليها بالنظر إلى المزاج الكريه الذى كان يسود إسرائيل آنذاك؛ فقد كان المستوطنون والسياسيون المنتمون إلى اليمين المتطرف يبذلون كل ما فى وسعهم لنزع الشرعية عن رابين الذى كان ملتزما بمبادلة الأرض مقابل السلام كجزء من اتفاقيات أوسلو.

وقام هؤلاء بمنازعة سلطته، واتهموه بالخيانة، ووضعوا رسومات تصوره كضابط فى قوات الشرطة النازية، ورفعوا شعارات فى المظاهرات تهدده بالقتل. وكان معارضوه السياسيون هم من يقفون وراء هذه الأعمال.

وفى مسعاهم للقيام بهذه الممارسات، خلق هؤلاء السياسيون بيئة سياسية مسمومة، اتخذ منها أحد المستوطنين اليهود اليمينيين رخصة لقتل رابين فلا شك أنه قد وجد من يقولون له إن «الله سوف يكون إلى جانبك» وقام بذلك بالفعل.

وقد أشار آخرون من قبل إلى التماثل بين إسرائيل آنذاك وأمريكا اليوم. لكنى أريد أن أضيف صوتى، لأن هذا التماثل يصيبنى بالغثيان. وليست لدى أى مشكلة مع الانتقادات الموضوعية من اليمين ومن اليسار التى يتلقاها الرئيس باراك أوباما.

لكن شيئا خطيرا يحدث الآن. فقد تصاعدت انتقادات اليمين إلى حد نزع الشرعية عن الرئيس، وخلق المناخ نفسه الذى كان موجودا فى إسرائيل عشية اغتيال رابين.

أى نوع من الجنون يمكن أن يدفع شخصا ما إلى إجراء استطلاع رأى على الفيس بوك يسأل: «هل يجب قتل أوباما؟» وتمثلت اختيارات الإجابات فى «لا، ربما، نعم، نعم فى حالة قيامه بإلغاء نظام التأمين الصحى الخاص بى».

وتقوم المخابرات السرية حاليا بالتحقيق فى الأمر. وآمل أن يضعوا الفاعل فى السجن وأن يلقوا بالمفتاح بعيدا، لأن ما يحدث الآن هو بالضبط ما كان يحدث لرابين.

وحتى إذا كنت لا تشعر بالقلق من أن شخصا ما قد يستمد من هذه الانتقادات اللاذعة رخصة للسعى إلى إيذاء الرئيس، فعليك أن تقلق إزاء ما يحدث للسياسة الأمريكية بشكل عام. ذلك أنه لم يعد بوسع قادتنا أن يرددوا بثقة كلمة «نحن». ولم يعد يوجد «نحن» فى السياسية الأمريكية، فى الوقت الذى نواجه فيه «نحن» مشكلات ضخمة عجز الموازنة والركود والرعاية الصحية والتغير المناخى والحرب فى العراق وأفغانستان ولن نستطيع «نحن» أن نتعامل معها، ناهيك عن النجاح فى مواجهتها، إذا لم نُعمِل ضمير «نحن» الجمعى.

وأحيانا أتساءل عما إذا كان جورج بوش الأب، الرئيس الحادى والأربعين للولايات المتحدة سيجرى تذكرته باعتباره الرئيس «الشرعى» الأخير. لقد كال اليمين الاتهامات لبيل كلينتون، وأدانه منذ اليوم الأول لتوليه منصبه عبر «فضيحة» وايت ووتر الزائفة. وكان انتخاب جورج دبليو بوش موضع شك فى ضوء فوضى التصويت فى ولاية فلوريدا، ولم يسمح له منتقدوه من اليسار بنسيان ذلك قط.

والآن يشهد أوباما هجوما على شرعيته، عبر الحملة التى ينظمها أطراف اليمين. فهم يستخدمون كل ما فى وسعهم الآن، ابتداء من تلويث سمعته بزعم إنه «اشتراكى» متخفٍ، إلى مناداته بالــ«كاذب» فى اجتماع مشترك للكونجرس، إلى التشكيك فى أنه ولد فى أمريكا أصلا، بل وفى كونه مواطنا أمريكيا من الأساس. لا وتأتى هذه الهجمات من الأطراف فحسب، ولكنها تأتى أيضا من لو دوبس فى السى إن إن، ومن أعضاء فى مجلس النواب.

وأقولها ثانية، فلتهاجموا سياسات الرجل، بل وحتى شخصيته كما تشاءون. وأدرك أن سياساته تكتنفها العديد من المصاعب، لكن إذا دمرنا الحق المشروع لرئيس آخر فى القيادة، أو فى العمل على شد البلد بعضه إلى بعض لأجل بناء الأمة وهو ما يحتاج إليه معظم الأمريكيين اليوم فإننا سنواجه مشكلة خطيرة. فلا يمكننا أن نظل 24 عاما بدون رئيس شرعى غارقين فى مستنقع المشكلات التى ينتهى بنا الأمر إلى إرجائها، لأننا لا نستطيع التعامل معها بطريقة عقلانية.

ويعتبر النظام السياسى الأمريكى، كما يقول المثل الشائع، «صممه عباقرة كى يمكن أن يديره حمقى». غير أن خليطا من النزاعات السياسية والتكنولوجية قد تلاقى فى العقد الأخير بطريقة تسمح للحمقى من جميع المشارب السياسية بأن يتغلبوا على عبقرية النظام ويصيبوها بالشلل.

وتتمثل هذه العوامل فى الدور المفرط الذى يقوم به المال فى السياسة، والتلاعب فى حدود الدوائر الانتخابية بغرض جعلها ديمقراطية أو ديمقراطية بشكل دائم، والقضاء على الوسطية السياسية، ودورة الأخبار التى تعمل 24 ساعة يوميا محولة جميع السياسيات إلى معارك يومية تدور حول التكتيكات التى تبتلع التفكير الاستراتيجى، ومجتمع المدونات الذى يقوم فى أحسن الأحوال بإثراء المناقشات وإضافة قيود جديدة على النظام الحاكم، وفى أسوأها بجعل المناقشات أكثر فظاظة لتنتقل إلى مستوى آخر تماما، مما يزيد من قدرة الشاتمين المجهولين على نشر الأكاذيب حول العالم.

وأخيرا، فوق كل ذلك، فإننا نشهد حملة انتخابات رئاسية مستمرة، تقوم بتغذية التحزب بين القادة السياسيين طوال الوقت.

وأزعم أن هذه التغيرات مجتمعه سوف تؤدى عند بلوغها حدودا معينة إلى نمط مختلف من المشهد السياسى الأمريكى يجعلنى أتساءل ما إذا كان ــ ومازال ــ بوسعنا مناقشة القضايا الخطيرة واتخاذ قرارات مستندة إلى المصلحة الوطنية.

لا يمكننا تغيير ذلك بين ليلة وضحاها، لكننا يمكن ويجب أن نمنع الناس من عبور الخط الذى يفصل بين نقد الرئيس وبين التشجيع الضمنى على القيام بما لا يمكن تصوره أو التسامح معه.

 New York Times News Service


هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2025 ShoroukNews. All rights reserved