الصعود إلى الهاوية

آخر تحديث: الخميس 4 أكتوبر 2012 - 8:30 ص بتوقيت القاهرة

كل من يعمل بالتدريس الجامعى يعلم أن هناك تراجعا فى المستوى العلمى للخريجين من عام إلى الآخر، كما أنه يرصد فى دهشة المفارقة الكبيرة بين ارتفاع مجاميع الثانوية العامة والتقديرات الجامعية من جهة وبين تدنى الحصيلة المعرفية وتواضع القدرة التنافسية للخريجين من جهة أخرى. هذه القاعدة بالطبع يحكمها بعض الاستثناء بحكم اختلاف مستوى الخريجين من جامعة وكلية لأخرى وفى داخل الكلية نفسها من دفعة إلى أخرى لكنها تظل قاعدة عامة، كما أنها وليدة مجموعة مركبة من العوامل أبرزها سياسة الأعداد الكبيرة التى تحول العملية التعليمية إلى مجرد آلة لتخريج أنصاف متعلمين وتدفع إلى سوق العمل مزيدا من الأيدى العاطلة.

 

●●●

 

فى منظومة التعليم الجامعى بَنَت كلية الاقتصاد والعلوم السياسية جامعة القاهرة تميزها على قاعدتين أساسيتين، الأولى هى تقديم خدمة تعليمية متميزة لعدد محدود من الطلبة والطالبات. وبالفعل فإن هذه الكلية الصغيرة (سابقا) ظلت قادرة على تزويد مواقع صنع القرار والسلك الدبلوماسى والمراكز البحثية ووسائل الإعلام بأعداد معتبرة من خريجيها، ولعل نظرة واحدة من حولنا تكشف عن هذه الحقيقة بجلاء. القاعدة الثانية التى ارتكز عليها تميز الكلية هى تلك العلاقة الخاصة التى تغزلها سنوات الدراسة الأربع بين الطلاب وبين كليتهم فلا تنقطع بمجرد تخرجهم وحصولهم على المؤهل الجامعى. كلية الاقتصاد بالنسبة لأبنائها ليست هى ذلك المبنى ثلاثى الطوابق، لكنها خلية نحل للأسر والنشاط الثقافى ونماذج محاكاة البورصة والمنظمات الإقليمية والدولية والبرلمانات العربية والأجنبية. حتى سنوات قليلة من الألفية الثالثة كان زائر الكلية معتادا على رؤية طاولة كبيرة للبينج بونج تمتد فى ردهة الطابق الأرضى، وكان الطلاب يتناوبون ممارسة هذه الرياضة فيما بين المحاضرات، أما نحن فلم يكن من الصعب علينا أن نشق طريقنا على جانبى الطاولة لنقصد غرف شئون العاملين أو قاعات المحاضرات. كانت كلية الاقتصاد مختلفة، وكان فى علاقة الأساتذة بالطلاب شئ من الحميمية الجميلة، الآن فإن الكلية على وشك أن تفقد مصدرى تميزها.

 

اعتادت الكلية أن تقبل ما يزيد عن حاجتها من الطلاب بنسبة تتراوح ما بين 70 إلى 80 % إضافية يحملها بها مكتب التنسيق، بحيث ظل يتراوح عدد المقبولين فى السنة الأولى ما بين 800 إلى 900 طالب، حتى جاء عام 2011/2012 الذى دخل فيه الكلية 1601 طالب، وهو عدد يزيد بأكثر من 300 % عن ذلك الذى تحدده الكلية لنفسها والذى يدور فى المتوسط حول 500 طالب. ومع ذلك كان يمكن تبرير هذا التطور بأنه جاء تاليا على عام الفراغ الذى لم يلتحق فيه بالكلية سوى 191 طالب. لكن الظاهرة نفسها تكررت فى العام الحالى وألزم مكتب التنسيق الكلية بقبول 1609 طالب سيضاف إليهم لاحقا المتخلفون من العام السابق والمحولون من كليات أخرى وحملة الشهادات المعادلة بحيث يبلغ عدد الطلاب فى العامين الأول والثانى فقط من أعوام الكلية ما يزيد عن 3000 طالب. رقم لا يستوعبه مبنى الكلية القديم ولا الملحق الجديد، ويمثل عبئا شديدا على كليهما وعلى الخدمات المكتبية والصحية والتعليمية للكلية. وحين تسأل عن المعيار الذى استند إليه مكتب التنسيق فى تحميل الكلية بما يزيد بنسبة 322 % عن حاجتها، يأتيك الرد بأنه حساب معدل الأساتذة إلى الطلاب، وهو معدل مضلل لأنه يدخل فى الحساب كل أعضاء هيئة التدريس من الأساتذة الأجلاء فوق السبعين ومن الأعضاء المتغيبين فى إعارات وإجازات خاصة. وهنا يلاحظ أن المعيار المضلل نفسه هو الذى أدى إلى تحميل كلية العلاج الطبيعى مثلا بزيادة تصل إلى 898 % عن حاجتها الفعلية، فيما أدى إلى تقليل عدد الملتحقين بتجارة القاهرة من المنتظمين بنسبة 4،8 % عن العدد الذى طالبت الكلية باستقباله، وهذا شئ بالغ الطرافة حيث يتصرف مكتب التنسيق وكأنه أدرى من أهل مكة بشعابها فمن لا يريد يعطى ويزاد، ومن يريد المزيد يؤخذ منه. بالطبع فإنه من الفكاهة الحديث عن مستقبل طاولة البينج بونج فحركة المرور فى ردهات الكلية وطوابقها المختلفة أصبحت أشبه ما تكون بعملية لحس الكوع التى تحدث عنها الرئيس السودانى عُمر البشير.

 

ثم نأتى للمصدر الثانى من مصادر تميز الكلية وهو علاقتها بالطلاب، فقد ترتب على الزيادة الضخمة فى أعداد المقبولين الالتجاء إلى استئجار قاعات فى المدينة الجامعية وتحويل مجموعة كاملة من الطلاب للدراسة بها. لن أناقش الكلفة المادية التى تحمل الكلية بنحو 15000 جنيها شهريا قيمة الإيجار، فالتكلفة الإنسانية أعلى بما لا يقاس حيث يؤدى إبعاد عدد من طلاب الكلية للدراسة فى المدينة الجامعية إلى تقطيع أواصر الصلة بينهم وبين زملائهم فى الدفعة نفسها، كما أنه لا شك يؤثر على مستوى تفاعلهم مع الأنشطة الاجتماعية والثقافية التى يموج بها مبنى الكلية. وإذا أضفنا لذلك عنصرا مهما هو أن الطلاب الذين يدرسون فى المدينة الجامعية يكونون من الملتحقين بالشعبة العربية المجانية وليس من طلاب الشعبتين الإنجليزية والفرنسية الممولتين بالمصروفات الدراسية، فإن هذا من شأنه تعميق ظاهرة الطبقية الاجتماعية بين أبناء الكلية الواحدة، ويفتت الدفعة نفسها إلى مجموعة متناثرة من الدفعات الغريبة عن بعضها البعض.

 

●●●

 

إن كلية الاقتصاد والعلوم السياسية هى الكلية الوحيدة الحاصلة على شهادة الجودة فى أكتوبر 2011 من بين كافة الكليات المتخصصة فى العلوم الاجتماعية، ومن شأن سياسة الأعداد الضخمة التى تُلزم بها الكلية ليس توسيع الفرص أمام المزيد من الطلاب للالتحاق بها والحصول على خدمة تعليمية متميزة، لكن الانخفاض بمستوى جودة العملية التعليمية للجميع على نحو قد يتحول بالكلية من الحرص على الصعود للقمة إلى لا قدر الله الاستسلام للصعود إلى الهاوية. إن سيف العدد لا ينبغى أن يُسلط على رقاب الكليات الجامعية، فالأولى هو التوسع فى إنشاء الجامعات. والمجاميع الخيالية ليست دليلا بالضرورة على المستوى العلمى المرتفع لأصحابها، وهذا يطرح فكرة إجراء امتحانات داخلية فى الكليات ذات الطبيعة الخاصة كما هو الحال فى الكليات التى تتطلب مهارات فنية معينة.

 

أذكر فى عام 1974 عندما التحقت بهذه الكلية، كانت أول محاضرة أتلقاها عن مبادئ العلوم السياسية، وكان المحاضر هو المرحوم الدكتور محمود خيرى عيسى العميد السابق وأحد أبرز أساتذة العلوم السياسية على مستوى الوطن العربى. نظر إلينا الأستاذ الجليل، وطاف بعينيه على دفعتنا (بين 100 و150 طالب) وقال مداعبا : تظنون أنكم ستلتحقون جميعا بالسلك الدبلوماسى والأرجح أن أكثركم سيوظف فى الجمعيات التعاونية. كان الرجل يشدد على معنى الكلية الصغيرة المنتجة لكفاءات متميزة وليس الكلية كثيفة الطلاب محدودى المهارات لكن عبارته كانت صادمة، فهل لو قُدر له أن يعيش بيننا ويدخل إلى الدفعة ذات ال 1609 طالب ترى ماذا عساه كان يقول؟