من أجل العرب المسيحيين
كريم ملاك
آخر تحديث:
الثلاثاء 4 أكتوبر 2016 - 11:20 م
بتوقيت القاهرة
رامى مالك، مصرى الأصل أمريكى الجنسية وأبيض الهوى. وقف رامى يحكى قصة كفاح والديه المهاجرين المصريين وكيف أن فوزه بجائزة الإيمى (Emmy) كممثل فى مسلسل أمريكى يعتبر تخطيا لأحد المستحيلات. لا يستطيع المتابع الجيد تجاهل كيف امتنعت هوليود وجوائز الإيمى عن اعطاء جوائز للممثلين السود حتى وقت قريب، بل على العكس من ذلك فإن السود دائما مُشيطنين فى السينما. فحتى فى القرار بإنتاج أفلام عن السود نرى عنصرية فجة، ففى فيلم «أربع نساء سود» فى عام ٢٠١٠، عندما قررت هوليود الكشف عن المسطور فى عمليات اغتصاب النساء الأمريكيات، تصادف أنهم اختاروا أربع نساء سوداوات وبالطبع فإن مغتصبيهم كانوا سودا فقراء وليسوا بيضا. التطور الذى تشهده هوليود الآن يكمن فى أن الأفلام عن العبودية والتفوق العرقى الأبيض فى أوائل القرن العشرين ضد السود فى تاريخ أمريكا يكون دائما للنشطاء السود الذين دعوا للتسامح والحركات المسالمة مثل مارتن لوثر كينج كما برز فى فيلم «سيلما»، لكننا لا نرى فيلما جيدا مثلا للحاج مالكوم اكس (بل العكس نراه مشيطنا فى فيلم سيلما).
فنبدأ نفهم أن فوز شخص مثل رامى مالك بجائزة إيمى، ورفض البعض اعتبار كونه «مصريا» بل قبطيا، ما هو إلا جزء ضئيل من النقاش. فكل من يسجل اسمه فى تاريخ هوليود دوما ما يدخلها بضريبة. لكن فى حالة رامى مالك كانت الضريبة مزدوجة. ففى اعتباره قبطيا وليس عربيا تستمر المزاعم البيضاء حول نجاح الفرد المستقل والحلم الأمريكى. إن العرب لا يسمح لهم بالاندماج والانصهار فى البوتقة الأمريكية إلا إذا كان لديهم ما يقدمونه وكانوا مستعدين أن ينسوا وطنهم العربى.
لكن خصوصية رامى مالك فى كون هناك تموضع وطن عرقى بدلا من وطن عربى، وكأن العرب المسيحيين ليس لديهم مكان فى الوطن العربى. ونرى هنا خطاب الإرساليات الذى يقول إن المسيحيين العرب ليسوا عربا بل من أجناس أخرى قبل الغزو الإسلامى. ولكن هذا التأريخ يخضع لمعادلة عجيبة، فإذا كان هذا صحيحا لقلنا إنهم ليسوا من هؤلاء الأجناس بل إنهم رومان أو إغريقيون أو فراعنة. ما أريد أن أقوله إن فى الزعم أن هؤلاء ليسوا مسيحيين بل أقباط (كصفة مستقلة عرقية) مثل من يزعموا فى لبنان أن المسيحيين أكاديون، إنما يختارون لحظة معينة فى التاريخ ويجمدونها، فماذا كان هؤلاء قبل ظهور الأكاديين؟ وماذا عن الفراعنة الذين اندمجوا بعد الغزو الرومانى وتزوجوا منهم وتم سبيهم وتشتتوا فى الإمبراطورية الرومانية؟ هل عرفوا نفسهم فى المنفى ولم يتزوجوا فى المنفى من رومان وكلهم رجعوا إلى مصر؟ هل نرفع راية الرومانيين الغزاة فى هذه الحالة ونقول إننا رومان؟
***
الحقيقة أن العكس صحيح، ففى الاحتفال برامى مالك كقبطى أمريكى ــ مع حذف مصريته وعروبته ــ يستمر الخطاب الأمريكى الأبيض الذى يقصى عدة حقائق مزعجة.
فمثلا ننسى مقتل خالد جبارة، اللبنانى المسيحى الذى قتل هذا العام فى ولاية أوكلاهوما على يد رجل أبيض متعصب نعته بالصفة الشهيرة «عربى قذر» التى فى الأصل كانت تستخدم ضد السود عندما كانوا يعملون فى غيطان القطن ويضربهم سيدهم الأبيض بالسوط ويقول «اعمل أيها الأسود القذر». وبالطبع لا يُذكر أن خالد جبارة قدم شكوى للشرطة قبل مقتله تفيد بشعوره بتهديد ما من جاره الأبيض، لم تحرك الشرطة الأمريكية ساكنا فى حين أنها دائما تتحرك بسرعة البرق إذا كانت امرأة بيضاء مهددة من رجل أسود، وما علينا إلا قراءة التقارير الحقوقية فى أمريكا عن استخدام الشرطة لقوانين الاغتصاب الزوجى التى تندد بتوظيفها للقبض على السود حصريا.
فى الاحتفال برامى مالك كقبطى أمريكى، وليس عربيا أو مصريا، ننسى كيف قام الإف بى أى FBI بتلفيق تهم اغتيال السيناتور الأمريكى روبرت كندى لسرحان سرحان، فلسطينى مسيحى مقيم بالولايات المتحدة استخدموه ككبش فداء، أمر لا يذكر ولا أحد يهتم به ــ حتى من أنصار التيار الإسلامى الذين يسعون للحصول على الحقوق الحصرية كضحايا للعنصرية البيضاء والمجتمع الأمريكى ــ لأنه لا يعقل أن المهاجر المسيحى لأرض الموعد يصبح متهما أمام القضاء الأمريكى، لأن أحد الأساطير ــ فى المخيلة ــ التى بنيت عليها أمريكا هو نزوح المسيحيين المضطهدين من بريطانيا التى كانت تضطهد البروتستانتيين البيوريتانيين (puritans). فإذا كانوا هؤلاء البيوريتانيين هربوا من الاضطهاد الدينى، وكرسوا فكرة حرية الاعتقاد فى دستور أمريكا، كيف تقوم الشرطة الأمريكية بتلفيق قضية لسرحان سرحان، عربى فلسطينى مسيحى هرب من مجازر الصهاينة فى ١٩٤٨؟ الإجابة تكمن فى أن هذه الحقوق للبيض فقط.
***
كذلك الأمر فى الذاكرة البيضاء الأمريكية التى تنسى مقتل أول ضحية للعنف الأبيض بعد أحداث ١١ سبتمبر عندما قُتل بالبير سنج Balbir Singh Sodhi، هندى سيخى وليس مسلما، على يد أمريكى أبيض متشدد. فحتى هذا الأمريكى الأبيض مرتكب الجريمة، الذى ظن أنه ينتقم ضد المسلمين، لم يفرق بينه وبين المسلمين لكنه اعتبره ليس أبيض وتبعا لذلك فهو يشكلُ تهديدا ويجب قتله. أما فى ما يخص المصرى القبطى عادل كاراس، فكان هو الضحية التالية بعد بالبير سنج. مقتل كاراس شكل فضيحة كبيرة للهيمنة البيضاء الأمريكية حين قٌتل فى سان جابريل فى ولاية كاليفورنيا. اتضح للشرطة الأمريكية كون كاراس مسيحيا ــ ولكن عربى ــ فكتبوا فى أجزاء من المحضر أنه قتل من أجل سرقة البقالة التى كان يعمل بها فى حين لم يُلاحظ سرقة أى نقود. طبعا غلق التحقيق وذلك كان قرارا مقصودا لأنه إذا كانت جريمة «كره» لكان هناك فضيحة فى مقتل مسيحى (وإن كان عربيا) بعد ١١ سبتمبر، لأن ذلك يعقد السردية البيضاء بأن المسيحية استهدفت فى هجوم ١١ سبتمبر وأن المسلمين يقودون حربا ضد المسيحيين. فى حين أن الأمر غير ذلك بتاتا، فكيف يكون فى بلاد الحرية والتسامح غلق لمحضر قتل لمسيحى عربى فيما هو واضح أنه جريمة كره؟ إذا كان كاراس مسيحيا أبيض، وليس عربيا، هل كان سيعامل بنفس الطريقة؟
إذا كان الأمريكان فعلا سيحتضنون المسيحيين العرب المتجنسين على أنهم أمريكان وسيسمحون لهم أن ينصهروا فى المجتمع، هل يصبحوا مثل مستشار ترامب للسياسة الخارجية «وليد فارس»، اللبنانى المارونى الذى كان زميل «سمير جعجع» رئيس ميليشيات القوات اللبنانية الآن، وأحد مرتكبى مجزرة صبرا وشاتيلا بالتعاون مع الجيش الإسرائيلى والجيش اللبنانى الجنوبى. إذا وقعوا فى هذا الفخ فهم يرسخون مفهوم التيار الإسلامى المخيل الذى يرى إمبريالية أمريكا فى جوهر مسيحى دون عنصره الأبيض الأمريكى البروتستانتى، وينسون مثلا غزو العراق الذى كان يدعو له فصيل عراقى مسلم الذى كان فى المنفى الأمريكى لفترة طويلة. صحيح وليد فارس هو من رتب لقاء السيسى بدونالد ترامب على هامش الجمعية العامة للأمم المتحدة وبعد الفضيحة تم ترتيب لقاء لهيلارى كلينتون منعا لإحراج السيسى، لكن هذا لا يمنع رصد أن عروبة وليد فارس ترجع للخلف كلما فعل ما خوله له سيده دونالد ترامب. المشهد يصبح أكثر ارتباكا حين نرى جموع الأقباط الذين تم حشدهم من نيوجيرسى وهم يلوحون للسيسى، دون ذكر الخناقات التى حدثت على هذا الحشد أو ذكر أن السيسى لم يقم بالإمضاء على قانون بناء الكنائس المعيوب حتى الآن.
***
إذن نفهم أن تلك القوانين التى تصون وتحفظ قيم المجتمع الأمريكى المتسامح لا تستخدم إلا للقضايا التى ترسخ أسطورة أمريكا بكونها حصن الحريات، مثل قوانين الاغتصاب وقضية المرأة فى أمريكا التى دوما ما تنصر النساء البيض ولكن تضر بالنساء السود. الحرية مصونة بموجب الدستور، لكن الدستور لا يرى إلا هؤلاء البروتستانتيين البيض الذين هربوا من اضطهاد انجلترا. ولذلك فهم يريدون أن يروا رامى مالك على أنه أبيض أيضا، وليس عربيا مصريا، فمن هنا نفهم أن فكرة الهيمنة البيضاء مرتبطة ارتباطا وثيقا بالمسيحية البروتستانتية وليست المسيحية الأرثوذوكسية، فلهذا السبب قيل للأنبا أنجيلوس فى مقابلة لفوكس نيوز على خلفية مؤتمر أوباما للأقليات المسيحية المهددة فى الشرق الأوسط عام ٢٠١٤ «رأيت ردود أفعال سلبية من بعض الأرثوذكسيين تجاه إسرائيل والبعض يستغرب من ذلك لأنه يفترض أن الكنائس الأرثوذوكسية تحب إسرائيل؛ هل الأمر ليس كذلك؟» فتحول هذا المؤتمر عن المسيحيين المهددين إلى قضية حماية إسرائيل. فإذا كان الأمريكان يرون المسيحيين العرب على أنهم جزء من العربى القذر إلى أن يثبت غير ذلك، مثلا بسؤالهم عن آرائهم لإسرائيل، لماذا نسارع نحن العرب المسيحيون بشطب عروبتنا فى حين أن الرجل الأبيض لن يعترف بنا إلا إذا حققنا أهدافه العنصرية؟