الشجن..
وحيد حامد
آخر تحديث:
الأربعاء 4 نوفمبر 2009 - 9:49 ص
بتوقيت القاهرة
بلا عناد أو مكابرة أقرر أن الشيخوخة تزحف نحوى برفق، والذاكرة تحديدا أصابتها حالة هشاشة، وكثيرا ما أتعرض لمواقف محرجة، أشدها قسوة على نفسى أن أقابل أحد الأصدقاء ويغيب عنى اسمه تماما وتفشل كل محاولات استدعاء الاسم ويصبح الموقف ثقيلا وصعبا إذا طال اللقاء ودار بينى وبينه حوار أو نقاش يخاطبنى باسمى مباشرة وأنا أخاطبه بحضرتك وسيادتك وفاكر الأيام الحلوة.. وأشكو لأصدقائى من الهم الذى تسببه لى هذه الآفة فمنهم من يخفف على الأمر، قائلا: كلنا كده، ومنهم من يقول كله من تأثير المحمول، وآخر يقول فى هزل واضح: هذه الحالة دائما تأتى مع السحابة السوداء فى موسم حرق قش الأرز.. وآخر يقول: عادى إن مخ البنى آدم «يهنج» ويريح شوية وفى الحالة دى لازم تقفل وتفتح.. ولكن آخرهم حسم الأمر قائلا:
ــ انت مش لسه فاكر الحلو والمر فى حياتك؟!
ــ طبعا فاكر
ــ وفاكر أشخاص لا يمكن تنساهم
ــ طبعا فاكر
هنا كشف هذا الصديق الداهية عن هدفه وأنه يدير لعبة مسلية واستطرد
ــ ارجع بالذاكرة أربعين سنة فاتوا وافتكر شخص أو اثنين لا يمكن تنساهم؟
واكتفيت بابتسامة بلهاء على اعتبار أننى سوف أستدعى الذكريات فيما بعد.. أربعون عاما مضت أو أكثر قليلا، حيث القاهرة فى الستينيات وقبل النكسة تحديدا، مدينة عظيمة من أبهى المدن.. مدينة لها طعم وطابع ورائحة ومذاق.. مدينة تجد فيها كل ما تطلبه من الطيبات، أيامها كنا نطلق عليها مدينة الألف مئذنة.. وكانت منارة ثقافية وحضارية، مسارح تقدم أرقى العروض لكبار المبدعين، والمكتبات كانت تحتل شوارع وسط المدينة قبل أن تتحول إلى محلات لبيع الأحذية.. لم تكن القاهرة كهذا المسخ المشوه الذى نراه الآن، وكان الناس أيضا غير الناس.. فى داخلهم أصالة وعاطفة وحب.. وفى سلوكهم لطف ورقة ومودة.. وفى حديثهم خفة ظل مقرونة باللفظ الحسن.. وكانت الشهامة من أساسيات الشخصية المصرية.. فى تلك السنوات، كنت أسكن فى إحدى الحارات المتفرعة من شارع درب الجماميز وكنت صديقا لكل باعة الكتب القديمة فى هذا الشارع العتيد وبحكم هذه الصداقة كان يسمح لى بالجلوس داخل الدكان لا خارجه ويتم تعريفى لزبائنهم القدامى على أننى كاتب ناشئ.. وذات يوم كنت أجلس داخل دكان عم إسماعيل وأنا مفلس تماما ولم أدفع الإيجار ولا أستطيع الاقتراض لأنى مدين للجميع والهم مسيطر والكآبة تسانده وتدعمه.. وفجأة هبط على الدكان رجل أنيق طويل عريض له هيبة وعلى وجهه ابتسامة لا تغيب.. وأخذ يطوف بين رفوف المكتبة وأكوام الكتب ويختار وينتقى وعم إسماعيل يساعده بهمة.. وأنا جالس كما أنا بين يدى كتاب مفتوح مدعيا أنى أقرأ وأنا لا أقرأ.. وهل يقرأ أو يكتب المفلس المدين المهدد بالطرد من المسكن..؟ مرت نحو ساعة أو أكثر قليلا وكانت النتيجة أن هذا السيد المهاب اشترى حزمتين كبيرتين من الكتب ربطهما عم إسماعيل بالدوبارة ودفع الرجل حسابه.. ثم نظر إلى قائلا بلطف..
ــ ممكن يا ابنى تشيل معايا ربطة لغاية محطة التروماى..؟!
وقبل أن أنطق بالقبول أو الرفض كان عم إسماعيل أسرع منى..
ــ لا يا سعادة البيه أنا اللى هشيل مع سعادتك والأستاذ وحيد كاتب ناشئ..
وإذا بالرجل الهادئ الأنيق الوقور يقول لعم إسماعيل
ــ لا أنا عاوزه يوصلنى.. خليك انت فى المحل بتاعاك.
أمام هيبة الرجل وحسن حديثه ونوعية البضاعة التى سأعاونه فى حملها، فأنا لن أحمل «قفص جوافة» إنها كتب عظيمة الشأن.. ووجدت نفسى أحمل الحزمة الأكبر والأثقل بحكم أننى الشاب.. وعلى محطة الترام قال لى:
ــ أنا ساكن فى روكسى.. هاخد أتوبيس من ميدان العتبة..
ايه رأيك تركب معايا لغاية هناك علشان تساعدنى فى الركوب..
ترددت كثيرا.. ولعبت فى رأسى الظنون السيئة.. ولكنى اعتبرت الأمر مغامرة يقدم عليها كاتب ناشئ.. وفى ميدان العتبة صعد إلى الأتوبيس وصعدت معه حاملا حزمة الكتب وجلس الرجل واستقر وعندما هممت بالنزول قال بنفس الهدوء:
ــ لو جيت معايا لغاية روكسى علشان تساعدنى يبقى كتر خيرك.. لأن محطة الأتوبيس بعيدة عن البيت شوية..
ولأنى اعتبرت الأمر مغامرة قررت أن أواصل حتى النهاية.. وتحرك بنا الأتوبيس.. قال الرجل.. أنا المهندس حنفى.. إسماعيل قال إنك كاتب ناشئ.. بتكتب إيه..؟! ودار الحوار على النحو التالى:
ــ قصص قصيرة..
ــ اتنشر لك حاجة..؟
ــ آه.. فى جرايد ومجلات بيروت..
ــ وفى مصر..؟
ــ قصة واحدة فى مجلة الثقافة..
ــ خدت فيها فلوس..؟
ــ ثمانية جنيهات بس لسه الشيك ماطلعش..
ــ على فكرة انت مفيش معاك فلوس..
وسيطر على الصمت تلقائيا، واستطرد هو..
ــ وعليك فلوس كمان..
ولم أنطق، وتوقف الأتوبيس وسرت معه حاملا حزمة الكتب وأمام عمارة سكنية فاخرة وبمجرد أن رآه البواب نهض مسرعا وأقبل ليحمل عنه وعنى ويتجه فى تلقائية إلى الداخل.. وسألنى الرجل..
ــ انت ما قلتش اسمك إيه..؟
ــ وحيد حامد
ــ أنا اسمى المهندس حنفى.. وساكن هنا.. ودول 100 جنيه سلف منى ليك.. لما يبقى معاك فلوس ابقى تعالى رجعهم وأديك عرفت البيت.. مع السلامة.
لم يترك لى فرصة التردد.. أو حتى الجدل الكاذب.. وتركنى واقفا مكانى بينما يتقدم نحو مدخل العمارة بخطوات ثابتة.. مائة جنيه فى ذاك الزمان كانت ثروة بحق.. ثروة كبيرة يصعب سدادها خاصة إذا كان المدين يعيش فى هذه المدينة بجنيهات قليلة.. سددت ديونى.. ودفعت إيجارى المتأخر.. وذهبت إلى المسرح وتجولت بين دور السينما.. وزال عنى هم الدين.. ومرت الأيام وكل يوم يمر أتذكر فيه المهندس حنفى.. وحطت علينا النكسة وطالت علينا الأيام والليالى.. وحققت قدرا من النجاح.. وقدرا من المال يسمح لى بسداد دين الرجل الذى لا أعرفه ولا يعرفنى.
ذهبت إلى نفس العمارة.. رأيت البواب نفسه.. سألته عن المهندس حنفى.. رد على بصوت فيه شجن.. المهندس حنفى تعيش انت. هتفت .. توفى!! من سنتين..!! مكثت واقفا فى مكانى كأنى تمثال وفى أعماقى حزن وشجن.. نظر إلى البواب قائلا:
ــ فيه حاجة يا أستاذ..!!
قلت وأنا أغالب دموعى..
ــ علىّ للمرحوم دين جاى أسدده..
قال الرجل وقد كست وجهه ابتسامة..
ــ طلعه صدقة.. فيه ناس زى حضرتك تمام جم هنا علشان يسددوا والست هانم قالت يتصدقوا بيه..!!
رحم الله المهندس حنفى الذى لا أعرف اسمه بالكامل.. والذى قابلته لمرة واحدة فى حياتى.. ولكنه كان صاحب فضل ومروءة وشهامة ويحمل نبل أهل العلم وشموخهم.. إنه أحد أبناء مصر قبل أن تصاب بأمراض العفونة..