المسئولية الاجتماعية والقطاع الخاص العربى
سلام الكواكبي
آخر تحديث:
الخميس 4 نوفمبر 2010 - 10:23 ص
بتوقيت القاهرة
أتيحت لى أخيرا الفرصة بأن أشارك فى ملتقى حوارى عربى تركى حول دور رجال الأعمال فى العمل العام وحول المفهوم المعاصر للمسئولية الاجتماعية لدى القطاع الخاص. وقد تميّز اللقاء باستعراض للتجربة التركية فى هذا المجال، ومحاولة عربية لتبيان إمكانات تطوير هذه الممارسة فى قطاع الأعمال العربى. وعلى الرغم من الغياب شبه الكلى لرجال الأعمال العرب وحضور قلة من رجال الأعمال الأتراك، فقد تركز النقاش بين الباحثين والمهتمين والناشطين الحقوقيين، حول إمكانية أن يلعب القطاع الخاص دورا فعّالا فى مسألة التحول الديمقراطى من خلال الانخراط فى العمل العام وتحفيز المساهمة الاجتماعية والمشاركة فى نشاطات المجتمع المدنى العربى الفتى.
منذ فترة قريبة قال لى أحد الاقتصاديين البارزين إن الأمل الوحيد لتحقق الديمقراطية فى الدول العربية هو أن يصل الرأسمال الخاص إلى الاقتناع بضرورة تحققها. وبالطبع، فإن هذا النقاش قديم قدم الأدبيات، التى تحدثت عن علاقة قطاع الأعمال بالتحولات الديمقراطية أو على العكس من ذلك بالتوجه نحو تعزيز السلطات الاستبدادية فى شرق آسيا وفى جنوب أمريكا. ومن المؤكد، وبعد متابعة مختلف التجارب، أنه لا توجد وصفة عامة يمكن تطبيقها فى مختلف الفضاءات الجغرافية والزمنية. بالمقابل، فإن إقحام أصحاب المال فى نقاش من هذا القبيل على الساحة العربية هو خطوة أولى لتلمس إمكانية تصنيفهم من حيث إنهم ديمقراطيون أو أنهم من دعامات السلطات الاستبدادية.
إن مفهوم المسئولية الاجتماعية المتطور فى الأنظمة الديمقراطية متمثل بشبكة واسعة ومعقدة من الالتزامات ومن المؤسسات (Foundations) التى يمولها رجال الأعمال ويبتعدون عن إقرار سياساتها إلا بقدر ما يخوّلهم ذلك أداءهم ضمن مجالس إداراتها المنتخبة، والتى تتغير دوريا بحيث لا يمكن وقوع أى استئثار بالقرارات أو بالتوجهات. ولا يخلو الأمر من ميول سياسية أو دينية، ولكنها لا ترسّخ قيادة الفرد الثرى، وإنما تُبرز مدى أهمية الشأن العام فى إطار نشاطه الاقتصادى. أضف إلى أن المنطق الرأسمالى، مهما كان سلبيا، يحتاج إلى مجتمع يستهلك، وبالتالى، مجتمع قادر على التوصل إلى الحد المناسب من الرفاهية، التى تسمح له باستهلاك السلع والخدمات. فالعملية إذن ليست محصورة بمجال المساعدة وإعادة توزيع محدود للثروة، بل هى أيضا مرتبطة بالفائدة الاقتصادية المتأتية عن تدعيم سياسة المسئولية الاجتماعية وتطوير أدواتها.
للأسف، فإن التشاؤم هو سيد الموقف فى المجال العربى على أقل تقدير. فالبنية الأساسية لقطاع الأعمال الخاص فى الدول العربية قائمة إجمالا على مفهوم العائلة والانتماء إليها، ولا يوجد حوكمة مؤسساتية أو شفافية إدارية. ويعتقد أغلب رجال الأعمال، وهذا ما تم التعبير عنه من البعض فى الملتقى العربى التركى، بأن الزكاة، التى يدفعونها فى إطار «التزامهم» الدينى هى الترجمة الأفضل لمفهوم المسئولية الاجتماعية، وبالتالى فهم ليسوا بحاجة «لدروسٍ من أحد». ويستقر هذا المفهوم الدينى للمسئولية الاجتماعية، والذى له أبعاده المرتبطة بالثقافة وبالوعى، وتصعب عملية طرح مفاهيم أخرى أقل عصبوية وأكثر انفتاحا على مجتمع وطنى أو إقليمى أو عالمى بجميع تلاوينه وانتماءاته.
ويصحّ أيضا القول، بأن مفهوم المسئولية الاجتماعية لدى أصحاب الثروات والأعمال، يرتبط أساسا بمفهومى المواطنة والانتماء إلى الدولة وهما مفهومان عزيزان على الشعور العربى، الذى يتطور سلبا باتجاه الانتماء للطائفة والقبيلة والعشيرة، وتساهم الأنظمة السياسية فى تأجيجه درءا لنشوء أى وعى عام بما لا طاقة لها على تحمّله، إذ إنه قد يتطور إلى إدخال مفاهيم أكثر «خطرا» على استقرار الأنظمة، مثل التشاركية والانتخابات والمساءلة والمحاسبة، حمانا الله والأنظمة شرّها. إن المعنيين بتطبيق مفهوم المسئولية الاجتماعية الصحيح، أى الذى لا ينحصر فى الأطر، التى ذكرناها، هم أبناء هذه البيئة التى وأدت مجمل المفاهيم التى تساهم فى عملية الانفتاح والتحول والتقدم. هم إذن معذورون. أضف إلى ذلك كله، أن غالبيتهم ينتمون قرابة أو مصلحة أو مذهبا أو عشائريا.. إلى الجالسين على سدة الحكم، فأى تحول ديمقراطى يرتجى منهم؟ لقد انتفعوا، وما زالوا، من أنظمة اقتصادية ميّزتهم ومنحتهم الأفضلية، وأطاحت بمن يحاول، اقتصاديا على الأقل، أن يوجد لنفسه مرقد عنزة فى إطار نشاطاتهم.
ولقد يسّرت لهم الأنظمة المشجعة على الاحتكار، إضافة إلى الاستثناءات المتعددة والمتكررة من أحكام قوانين قراقوشية، فى تعزيز ثرواتهم ومراكمة كنوز قليلٌ ما دفعوا عنها الضريبة. إضافة إلى أن غالبية من يعملون لديهم هم خارج الأطر النظامية للتوظيف، وبعيدون عن تحصيل حقوقهم الأساسية وغير مسجلين فى الضمان الاجتماعى. كل هذه النقاط ترتبط أساسا بمفهوم المسئولية اجتماعية كانت أم وطنية أم أخلاقية. فالضريبة هى جزء من عملية إعادة توزيع الثروات وتعزيز الخدمة العامة فى إطار دولة القانون. وكذا الأمر فيما يتعلق بشئون العاملين الاجتماعية والإنسانية.
هذه الصورة القاتمة لوضع معيش، تتعرض أحيانا إلى ومضات نور من قبل بعض المبادرات التى تحمل فى طياتها جرعات من الأمل. حيث تبرز بعض الفئات المتمكنة رغبة فى التوجه إلى العمل العام فى إطار شعور حقيقى بالانتماء إلى مجتمعها وإلى وطنها والسعى بالانتقال من مبدأ الإحسان إلى مبدأ الالتزام.
برز فى هذا النقاش عظيم فائدة التعرف على التجربة التركية المتطورة فى هذا الحقل، من دون محاولة إجراء أى مقارنة تستند إلى «الإقليم المشترك» و«الدين المشترك» اللذين يجمعان الدول العربية بالدولة التركية. فتركيا، على رغم عثراتها وتراجعاتها أحيانا، دولة ديمقراطية لديها مجالس منتخبة ورقابة برلمانية ومحاسبة ومساءلة. وهذا كله، تفتقده مجمل الدول العربية بنسب متفاوتة نزولا وليس صعودا بالتأكيد. وتركيا أيضا، وهنا المفارقة، هى دولة علمانية، على الرغم من أن حكومتها الحالية يقودها حزب إسلامى التوجه، ولكن حتى هذا الحزب وزعاماته، هم منخرطون فى التجربة المؤسسة للدولة التركية الحديثة وهم أبناؤها.
وهذا ما تفتقده مجمل الدول العربية حتى من ادعى منها العلمنة. وفى هذا الإطار، اقترح أحد المشاركين العرب أن يُسأل رجال الدين بشأن إصدار فتاوى تساعد على ترسيخ مفهوم المسئولية اللاجتماعية لدى رعيتهم، وهنا نحن نعود إلى نقطة الصفر، حيث ما زلنا نعتقد ونجزم بأن كل حياتنا الدنيوية مرتبطة بتعاليم أو تعليمات رجال الدين الذين ربما لم نترك لهم لا الوقت ولا المجال للانصراف إلى شئون الدين وشئون الروح لكثرة ما طالبناهم باتخاذ مواقف تخص حيواتنا الدنيوية. ربما.