«عظومة».. شرخ لا يمكن إصلاحه
محمود عبد الشكور
آخر تحديث:
السبت 4 نوفمبر 2023 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
مفاتيح قراءة هذه الرواية متعددة، وكلها مثيرة للاهتمام، فهى أولا حكاية جيل بقدر ما هى حكاية شخصية مأزومة، لا تستطيع التكيف مع واقعها، ولا يمكنها أن تصلح فيه شيئا، وهى ثانيا تحليل عميق لمفهوم «الهزيمة» وقتل الأحلام، بل لعلها من أنضج محاولات أجيال ما بعد 1967 فى التعبير عن المدى الذى وصلت إليه جروحهم، وشروخهم الداخلية، والتى زادت اتساعا بعد ذلك.
الرواية وعنوانها «عظومة»، لمؤلفها عصام البرعى، والصادرة عن دار ميريت، تقدم أيضا صورة مؤثرة لنقيض البطل. لا تجمله، ولا تقلل من شأنه، فقد كان يوما جزءا من الأحلام والأمنيات، ولكنها تشخص أحواله فحسب، وبطموح فنى لافت، أى أن البرعى لا يكتفى بأن يكتب عن جيله، ولكنه يحاول أيضا أن يجد طريقة فنية تتسق مع فكرته.
يرتبط بناء الرواية، ورسم شخصياتها، وحتى عنوانها بهذا المضمون، حتى اسم البطل «عظومة» غير مطروق، ويحمل دلالات لا يمكن تجاهلها، فيبدو حينا كاسم تدليل، ويأخذنا أيضا إلى معانى «العظمة» و«التعظيم». ولكن ما جرى لبطلنا، يجعل هذه الدلالات عكسية تماما، إذ لا محل للعظمة، ولا للتدليل، إذا عرفنا أن عظومة محاسب ترك عمله، وهجرته زوجته، وفقد ابنته، واعتقل وتم ضربه، ويشك كل من يعرفه فى قواه العقلية، فقد أخذ عظومة يحذر الناس من كارثة كبيرة قادمة، دون تفاصيل، ودون أن يحدد موعدا، أو كيفية.
لا الناس استمعت إليه، ولا هو توقف عن التحذير، بقدوم الكارثة.
اللافت أننا لا نسمع عظومة كراوٍ، أو كصوت مستقل، فكل ما نعرفه عنه يتم عن طريق صديق طفولته، الذى قرر أن يبحث عن عظومة، فالصديق هو الراوى والشاهد عليه.
لا نعرف اسما لهذا الراوى، ولكن اللعبة السردية للنص تكاد توحى لنا بتقاطعات كثيرة بينه وبين عظومة، بل لعله الجزء الآخر من ذات الرواى المنشطرة، فالراوى أيضا تركته زوجته، وطلبت الطلاق، وفى حوارات عظومة الطويلة مع الراوى، يترك البرعى الحوار دون تخصيص، فيختلط على القارئ الحد بين عظومة وصديقه الراوى، بل إن هذه الفصول الحوارية، تبدو كما لو كانت مونولوجا، توزع بين شخصية واحدة، تواجه نفسها فى المرآة.
هنا حيلة فنية بارعة للغاية، لا يتركها الكاتب بدون تلميحات كما أسلفنا، فيقول الراوى مثلا: «مع عظومة كنت دوما أنا»، ويقول: «وكنت أرى بينى وبين نفسى أنه يكاد أن يكون نصفى الآخر، ولكنى لم أشأ أبدا أن أعترف بذلك على نحو صريح»، ويقول أيضا: «ترى هل علىّ إنقاذه أم إنقاذ نفسى؟».
والمقتطفات التى تبدأ بها الفصول من عام 1969 إلى 1984 ليست منسوبة لأحد، فلعلها كتابات الراوى وعظومة معا. تستطيع القول إن عظومة هو شبح الماضى العائش فى حاضر الراوى، لا هو قادر على التخلص منه، ولا هو قادر على فهمه ومساعدته، ودافع الراوى الصريح للبحث عن عظومة هو التخلص من الأشباح المتراقصة على جدران حجرته.
الراوى استسلم وانزوى، واجتنب البشر بقدر المستطاع، فهم فى رأيه ديدان كريهة، ولا سبيل لإصلاحهم، ولكن جزء عظومة بداخله، والذى استوى شخصية منفصلة، ما زال مهتما بالناس، ويريد تحذيرهم من الكارثة، وما زال «يرى أكثر مما تحتمل أى روح»، ويقبل أن يصبح رجلا صارخا فى البرية، ونوحا معاصرا يرى الطوفان قبل وصوله، وزرقاء اليمامة التى يكذبها أهلها، ثم يدفع ثمن ذلك بدون ندم.
ثمة مأساة ذات وجهين: شقاء وإحباط فى الماضى خلقا شخصا مهزوما ومنكفئا على ذاته، وخلقا أيضا شخصا ما زال يقاوم، ولكنه يدفع الثمن فى الحاضر، شقاء وإحباطا، وسجنا وتعذيبا.
ولكن أسئلة الاثنين واحدة: لماذا عوقبنا على أحلامنا عقابا قاسيا؟ ولماذا يتغير كل شىء إلى الأسوأ؟ ولماذا يبدو الناس بهذه الدناءة فى رأى الراوى؟ ولماذا يبدون بهذه اللامبالاة فى رأى عظومة؟
البحث عن عظومة ليس هدفا فى ذاته، ولذلك تبدأ الرواية بالعثور عليه، ونعود فى فصول تالية إلى خطوات البحث عنه، عبر عدة شخصيات، بعدها تأتى فصول مواجهة الراوى لعظومة، ومعرفة قصة التحذير من الكارثة، وفى الفصل الأخير نعرف نهاية ومصير عظومة.
هكذا صار الشكل والبناء هما المضمون نفسه، فالرواية ليست إلا رحلة بحث عن الذات، وعن أبعاد الكارثة معا، وأسئلة الراوى لعظومة، ليست سوى أسئلته لنفسه، ولحدود الاختيار والجبر فى قراراته، والفشل العائلى والوظيفى يكملان الفشل العام، بل لعلهما نتيجة لتغيرات اجتماعية واقتصادية عاصفة، والمحاسب الذى يضبط الموازنة، لم يستطع أن يضبط شيئا.
الراوى وعظومة مأزومان ومهمشان بالتأكيد، وهما نقيض البطولة بجدارة، ولكننا لا نعرف بالضبط حدود الأزمة النفسية، خاصة مع رواية عظومة عن الأساتذة الذين طلبوا منه أن يحذر الناس من كارثة قادمة.
حكاية الأساتذة هى الجزء الأضعف فى الرواية، فلا تحتاج شخصية مفكرة مثل عظومة لمؤثر خيالى، يدفعها للتحذير من كارثة غامضة، وشواهد الكارثة حاضرة فى الواقع.
كانت مناظرات الراوى وعظومة كذلك أطول ما ينبغى، ولم يكن التجريد ولا الفانتازيا أو حتى هلاوس بصرية افتراضية فى صالح بناء شخصية عظومة العارفة والواعية، بل إن سر شقائها أصلا فى هذا الوعى العارم، ماضيا وحاضرا، وكانت الناس معذورة فى أن تراه مضطربا، بينما يفترض أن تترجم شخصيته حقائق الواقع، لا تهويمات الخيال.
عظومة كما أراه هو الجزء الذى لم يستسلم للهزيمة من الراوى، ولأنه لم يفعل، فإنه يؤرقه للغاية، رغم الاعتراف بأن الزلزال قد شطر الشخصية بصورة لا يمكن أن تلتئم بعده. الألم عميق، ولا يمكن شفاؤه، ولا حل إلا أن تختفى إحدى الشخصيتين.
ولكن حتى ذلك، يبدو أمرا خطرا، لأنه قد يدمر الراوى وعظومة معا.
فيا لها من تراجيديا كارثية للفرد، وللجيل، وللوطن أيضا.