القضية الفلسطينية.. ما لا يطرب المستمعين!
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
السبت 4 نوفمبر 2023 - 10:05 م
بتوقيت القاهرة
لعلها واحدة من أعدل القضايا فى التاريخ الحديث، ولعله من أكثر الشعوب التى تعرضت للاضطهاد والظلم والتجاهل، بل والتآمر من المجتمع الدولى وقواه الدولية، إنها القضية الفلسطينية والشعب الفلسطينى العظيم! الأمر يعود إلى أكثر من سبعة عقود بعد أن أعلن قيام دولة إسرائيل وحصلت على الاعتراف الدولى فى ١٤/١٥ مايو ١٩٤٨ على أراضى فلسطين التاريخية بينما لم يحصل الشعب الفلسطينى على حق مماثل رغم أن القرار الدولى الذى أسس للدولة اليهودية هو نفسه الذى أسس شرعية دولة فلسطين، مزيج من الفرص الضائعة والشعارات الحنجورية وغياب الرؤية الاستراتيجية والحسابات الخاطئة والتدليس الدولى أدى فى النهاية إلى استمرار الفلسطينيين والفلسطينيات بلا دولة ولا سيادة ولا أمن ولا حقوق إنسان لمدة تزيد على سبعة عقود، ولذلك فإن انفجار السابع من أكتوبر (طوفان الأقصى) لم يكن إلا نتيجة طبيعية لكل هذه الظروف غير العادلة والتى جعلت من إسرائيل أشهر سلطة احتلال فى العصر الحديث يتم الدفاع عنها وعن حقها فى الدفاع عن نفسها مع عدم إعطاء الحق نفسه لمن تم احتلاله!
رغم ذلك، وفى أوقات كهذه، فإن مهمة الكاتب لا أن يسعد من يقرأ له فيسمعه ما يحب أن يسمعه أو ما يعتاد أن يسمعه، ولكن مهمته أن يكتب ما يعتقد أنه صحيح، حتى لو أخطأ فى تقديره فهذا أكثر أمانة من إطراب المستمعين والسير فى ركب القطيع دون محاولة النقد والتصحيح ولفت النظر إلى الأخطاء، فالنقد الذاتى أمر لا غنى عنه فى هذه الظروف، مهما بلغت حدة المشاعر والعواطف، ولنا فى تاريخ اللعب على وتر المشاعر والعواطف فى القضية الفلسطينية عبرة، بل الكثير من العبر، ولكن بشرط أن نعتبر!
• • •
فيما يلى بعض ممن لا نحب أن نستمع إليه عن القضية الفلسطينية فى عالمنا العربى، ولكن يظل فى رأيى هاما ولابد من التنبيه إليه:
أولا: من الخطورة بما كان شيطنة الغرب بلا تفرقة بين حكومات وأفراد ومنظمات مجتمع مدنى! صحيح النخب السياسية الغربية فى معظمها فشلت فى الانتصار للقضية الفلسطينية، وهادنت حكومة نتنياهو وجيشها وسكتت أو تغاضت أو قللت من جرائم الحرب التى يرتكبها جيش الاحتلال فى غزة أو الضفة الغربية، لكن تظل هناك العديد من الأصوات الغربية المؤثرة سواء على مستوى الحكومات (إسبانيا والنرويج على سبيل المثال) ، أو على مستوى كبار الفنانين والنقاد وكتاب الرأى، أو حتى على مستوى المنظمات الحقوقية التى أثبتت أنها لا تكيل بمكيالين، فضلا عن مجتمعات متنوعة من طلاب وإعلاميين وإعلاميات ومواطنات ومواطنين عاديين انتصروا للقضية الفلسطينية وأدانوا حكوماتهم فيما يتعلق بتحيزها لإسرائيل! بل وحتى وبالرغم من فشل الأمم المتحدة كمنظومة معطوبة عن اتخاذ أى إجراءات تتعلق بنصرة القضية الفلسطينية، فإن أمينها العام تحدث بشكل شديد الوضوح عن جرائم إسرائيل وأشار إشارة نادرة إلى أن العنف لا يولد من فراغ وإنه نتيجة لتراكمات انتهاكات إسرائيل لقواعد القانون الدولى، وهو أمر نادرا ما يقال على المستوى الأممى! حملة الكفر بالغرب وقيمه على إطلاقها لا يمكن التعامل معها ببراءة، ولكن تفوح منها رائحة الاستغلال السياسى للأحداث للترويج للسلطوية وانتهاك حقوق الإنسان فى بلادنا العربية!
ثانيا: كذلك فإنه من المؤسف عدم السماح لأحد بنقد حركة حماس تحت دعوى أن نقدها مهادنة للغرب، أو تعبير عن الهزيمة الداخلية! حركة حماس ليست فقط حركة مقاومة، ولكنها أيضا حكومة، وعليها مسئوليات، ولديها أيديولوجية وبرنامج سياسى، عدم التفرقة بين هذه المستويات المختلفة التى تتعامل بها الحركة أمر فى منتهى الخطورة، لأنه يستخدم الضحايا من الفلسطينيات والفلسطينيين الأبرياء كغطاء على أخطاء الحركة وقيادتها فى الداخل والخارج تحت دعوى أنه لا وقت للنقد فى هذه الظروف، وهو خطاب مكرر وفاشل! حماس أخطأت حينما خطفت الأطفال والسيدات والعجائز يوم السابع من أكتوبر، أخطأت حينما قتلت سكان غلاف غزة من الإسرائيليين المدنيين، هذا لا يبرر جرائم حرب الجيش الإسرائيلى ولا يمكن أصلا المقارنة بين هذا وذاك، ولكن من المهم الإشارة إليه حتى نفهم كيف استغلت حكومة إسرائيل وأبواقها الإعلامية فى الغرب هذه المشاهد المصورة للحصول على تعاطف غربى ووضع حماس فى خانة الإرهاب والبربرية!
ثالثا: من علامات عدم النضج واللعب على وتر المشاعر وتكرار أخطاء الماضى هو الحديث عن عملية طوفان الأقصى باعتبارها بداية تحرير فلسطين من النهر إلى البحر! هذا مجرد خطاب ساذج يتجاهل الكثير من الحقائق على الأرض، وأهمها أنه لا يمكن الحصول على فلسطين من البحر إلى النهر، وإنه لصالح الشعب الفلسطينى قبل غيره أن يتم التمسك بحل الدولتين وفقا لقواعد القانون الدولى، وعدا ذلك هو بمثابة إطراب للمستمعين على حساب الحقائق، رفع المعنويات على حساب ما يمكن إنجازه، والأهم أنه سيشكل مزيدا من الفرص الضائعة لقضية عادلة آن الأوان لحلها لصالح الشعب الفلسطينى بدلا من استغلالها للترويج للشعارات والتمترس خلف أيديولوجيات بالية سواء كانت إسلامية أو قومية!
رابعا: مما لا يحب الكثير سماعه، أن التعاطى مع القضية الفلسطينية باعتبارها قضية دينية إسلامية فحسب، هو ليس فقط رؤية محدودة تستبعد الكثير فى الداخل الفلسطينى قبل العربى، لكنه أيضا خطأ استراتيجى يحول القضية إلى صراع دينى يهودى ــ إسلامى وهو بالضبط ما تريده حكومة إسرائيل وتحالفاتها اليمينية فى الداخل والخارج! قضية فلسطين رغم أبعادها الدينية والقومية الواضحة، إلا أنها بالأساس قضية قانون دولى، قضية حقوقية إنسانية بامتياز وهذا هو السبيل الوحيد لحلها والكفاح من أجلها والحصول على دعم الرأى العام الدولى لها!
خامسا: من غير المجدى انتظار النصر للقضية الفلسطينية من أطراف عربية أو غير عربية غير مستعدة لدفع الأثمان الغالية لفتح جبهات قتال جديدة! فحزب الله ــ على سبيل المثال لا الحصر ــ مجردة أداة فى يد إيران، وانتظار خطابات أمينه العام، يعنى أن بعضنا يظن أن الزمن توقف عند العام ٢٠٠٦، وبكل تأكيد نحن فى زمن مغاير وحسابات مغايرة ومن تورط فى دم الأبرياء فى دولة عربية أخرى، لا ينتظر منه أن ينتصر لبرىء فى دولة أخرى، فالموضوع فى النهاية حسابات استراتيجية وقومية معقدة تتخفى وراء شعارات دينية وقومية فارغة من المضمون، هو مجرد ضجيج بلا طحين، ومن لا يرى فى خطاب سماحة السيد الأخير هذا المنحى الصوتى الفارغ من المضمون فلديه قصور فى الرؤية!
سادسا وأخيرا: إنه من المؤسف استسهال خطاب الحرب، ومحاولة دفع أطراف عربية ــ وفى مقدمتها مصر ــ لكسر الاتفاقات الدولية ومهاجمة إسرائيل حربيا! إذا كان هناك قرار بالحرب، فيجب أن يكون هذا قرارا عربيا بالإجماع، تشارك فيه الدول العربية وتتحمل مسئولياتها الدولية أمامه! أما من يقفون خلف الشاشات والكاميرات للمزايدات على مصر تحت دعوى أن عدم دخول مصر الحرب هو عدم الانتصار للقضية الفلسطينية فهم يدفعون مصر لاتخاذ قرار غير محسوب، ستدفع مصر وشعبها واقتصادها فقط ثمنه بينما سيقف هؤلاء كعادتهم يمصمصون شفاهم فى أفضل الأحوال! الحروب ليست نزهة، ولكنها دمار وخراب وتشريد ورهان خاسر بدماء الملايين! إذا فرضت الحرب على مصر، فهذا موضوع مختلف وله حديث آخر، أما فى اللحظة الراهنة، فعلى مصر أن تستخدم كل أدواتها الدبلوماسية للضغط على إسرائيل وحلفائها لإيقاف العدوان على غزة وشعبها بما فيها تخفيض العلاقات الدبلوماسية إذا لزم الأمر، لا التورط فى مستنقع الدمار الشامل، والذى لن يخدم القضية الفلسطينية فى النهاية، ولكنه سيزيد من أعداد الشعوب العربية المغلوبة على أمرها!
• • •
هذه مجرد عينة مما يجب على القارئة والقارئ العربى قراءته، ومما يجب على صناع القرار العربى إدراكه، فرغم كل المآسى التى تعرض لها الشعب الفلسطينى ــ ولا يزال ــ تظل هذه فرصة ذهبية لإعادة طرح القضية الفلسطينية على العالم بشكل مختلف وواقعى، يتحيز للقانون الدولى، ويركز على مخاطبة العالم بما يفهمه من مفردات، لا مجرد الاكتفاء بتوجيه خطابات الاستهلاك المحلى، التى قد تفرغ مشاعر الغضب لكنها لم ولن تؤتى بالجديد للشعب الفلسطينى، فهى خطابات منتهية الصلاحية ولا تصلح مع العالم المعاصر بقيمه السائدة وبتوازن علاقات القوة فيها، فإما الانتصار للشعب الفلسطينى الأبى، وإما الاكتفاء بترديد ما لا يسمن ولا يغنى من جوع!