عواصف النار فى شرق المتوسط
عبد الله السناوي
آخر تحديث:
الأربعاء 4 ديسمبر 2019 - 11:10 م
بتوقيت القاهرة
فى بلد ما، فكل البلدان تتشابه إذا ما افتقد مثقفوها أبسط حقوقهم فى التنفس بحرية.
وفى زمن ما، فكل الأزمان تتشابه إذا ما انتهكت إنسانية الإنسان بأقبية السجون.
بلا تحديد لبلد عربى بعينه، ولا زمن بعينه، جرت وقائع رواية «شرق المتوسط» للأديب الراحل «عبدالرحمن منيف»، التى صدرت منتصف سبعينيات القرن الماضى.
فى ذلك العمل الروائى جسدت شخصية «رجب إسماعيل» قدر القسوة الهائلة التى يتعرض لها المثقف المعارض، ومدى ما يلحق به من انتهاكات تنال من روحه قبل جسده وقد تدفعه لخيانة نفسه قبل قضيته، لكنه يحاول أن يلملم نفسه ومعنى حياته بعد أن خرج من السجن محطما.
كانت تلك إشارة منذرة إلى الخلل الفادح فى بنية نظم ما بعد التحرر الوطنى، وبما قد يلحق بدولها من عواصف وحرائق تنال من سلامتها وتهدد وجودها نفسه.
بعد عقود من نشر تلك الرواية ظهر فى شرق المتوسط «رجب آخر» يفتقد نبل المثقف المضطهد.
باسم تركيا القوية يحاول «رجب طيب أردوغان» أن يؤسس لدولة الرجل الواحد وباسم أمنها القومى يكاد يدفع بشرق المتوسط كله إلى قلب عواصف النار.
بتوقيت واحد فتح الرئيس التركى جبهتين: أولاهما، فى شمال شرق سوريا بالاحتلال العسكرى تحت لافتة الحرب على الإرهاب الكردستانى.. وثانيتهما، بتوقيع اتفاقيتين مع «فايز السراج» رئيس حكومة الوفاق الوطنى الليبية المؤقتة ترفع سقف التوتر فى شرق المتوسط إلى مستوى الخطر الداهم.
إحدى الاتفاقيتين تضفى على تحالفاته العسكرية مع القوى والميليشيات المتمركزة فى طرابلس صفة العلنية بقوة الأمر الواقع بغض النظر عن مخاصمتها للقرارات الدولية التى تحظر تصدير السلاح إلى الأطراف المتنازعة فى ليبيا.
والاتفاقية الأخرى تضفى نوعا متوهما من الشرعية القانونية على التنقيب عن النفط والغاز خارج الحدود الدولية التركية باسم اتفاق مع حكومة لا يخولها وضعها السياسى والقانونى عقد مثل هذه الاتفاقيات بالغة الخطورة.
فى عواصف النار فوق شرق المتوسط لا توجد أهمية كبيرة يعتد بها للقرارات والقوانين الدولية مثل الاستناد إلى نصوص «اتفاق الصخيرات» المغربية، التى أنشئت على أساسها عام (2015) حكومة «السراج»، وحددت صلاحياتها وحدودها وما لا يصح لها تجاوزه.
الحقائق تلخصها حسابات القوة ومصالحها قبل الاعتبارات القانونية والأخلاقية.
التنازع المصرى التركى حاضر فى الاتفاقيتين بأثر ما جرى بعد (30) يونيو (2013) وإطاحة جماعة «الإخوان المسلمين» من السلطة كنوع من المناكفة الاستراتيجية على الحدود المصرية الطويلة مع ليبيا وفى قلب استراتيجية شرق المتوسط.
الغاز عنوان لكنه ليس صلب التنازع.
والتنازع التركى اليونانى الموروث بتعقيداته وعقده التاريخية والاستراتيجية حاضر بما يتجاوز المصالح المتعارضة فى مسألة الغاز إلى موازين القوى بين الجارين اللدودين.
والتنازع الأمريكى الروسى حاضر بدوره بصورة غير خافية.
أمن النفط والغاز على رأس أولويات الأمن القومى الروسى.
هذه حقيقة يؤكد عليها تعاظم الدور الروسى فى أزمات الإقليم.
تمسك موسكو ــ تقريبا ــ بأغلب أوراق الأزمة السورية، وقد أضفى عليها ذلك وزنا إقليميا ودوليا أعاد إلى الأذهان صورة الاتحاد السوفييتى السابق كقطب دولى لا يمكن تجاهله.
وقد ترتب على ارتفاع منسوب الدور الروسى فى الملف الليبى حساسيات استراتيجية مع الولايات المتحدة تغيرت على أساسها حسابات وموازين وتحالفات.
هكذا انتقلت واشنطن من دعم وتأييد الجيش الوطنى الليبى بقيادة «خليفة حفتر» فى سعيه لحسم الأزمة عسكريا إلى مطالبته بوقف العمليات العسكرية على تخوم طرابلس إثر لقاء جرى فى واشنطن بين الإدارة الأمريكية ووفد من حكومة «السراج».
لا يوجد تفسير واحد متماسك لذلك التحول بعيدا عن الدور الروسى المتصاعد فى مستوى دعمه التسليحى والتدريبى للجيش الوطنى الليبى.
تبدو الصورة متناقضة ومربكة.
تركيا تدخل مع روسيا وإيران فيما يمكن أن نسميه «تحالف الضرورة» فى الأزمة السورية حفاظا على الأدوار التى تتطلع إليها عند التسوية الأخيرة، بالوقت نفسه تعمل كـ«شريك مخالف» لصالح الأطراف الغربية فى ملفى إدلب ومستقبلها ومباحثات جينيف لوضع دستور جديد.
لم يتجاوز رئيس الوفد السورى فى مباحثات جينيف عندما وصف وفد المعارضة بـ«وفد النظام التركى»، هذه هى الحقيقة.
لم يكن يجرؤ «أردوغان» على فتح جبهة جديدة فى ليبيا، تلوح فوقها احتمالات صدام، دون غطاء سياسى واستراتيجى أمريكى، أو ربما تحريض مباشر.
بأى حسابات عسكرية يصعب على أى دولة أن تفتح جبهتين بتوقيت واحد فى اتجاهين استراتيجيين متباعدين (سوريا/ ليبيا) ما لم يكن هناك غطاء دولى يوفر قوة حماية وإسناد.
لا يوجد طرف واحد فى أزمات شرق المتوسط يطلب الصدام بالسلاح، فتكاليفه باهظة والحسابات الدولية تحول دون اندلاعها، لكن اللعب بالنار غير مأمون العواقب.
ما يحدث أكبر من أزمة وأقل من حرب.
كيف سوف تمضى الأمور فى استعراضات القوة والتحالفات والمصالح؟
هذا هو السؤال الرئيسى الآن.
خرائط الغاز والنفط عنوان رئيسى فى صراعات القرن الحادى والعشرين حيث تتناحر المصالح وتصطدم الإرادات الإقليمية والدولية.
النفط السورى، كما الليبى، عنوان ثانٍ للصراعات المكتومة والمعلنة.
مستقبل البلدين العربيين عنوان ثالث، ما الصورة التى سوف يستقر عليها كلاهما فى نهاية المطاف؟
بالنسبة لمصر فإن أمنها القومى يبدأ من الشام وسلامة حدودها الليبية مسألة أمن قومى على درجة عالية من الخطورة.
لمصر مصلحة مؤكدة فى استقرار ليبيا وتعافى دولتها ووحدة ترابها الوطنى، أو أن يجد شعبها سبيلا لحل سياسى ينهى معاناتها الدامية التى ترتبت على تفكيك البلد بعد احتلاله من قوات «الناتو» باسم الثورة على نظام «معمر القذافى» وتسليمه لجماعات مسلحة بعضها إرهابية بالمعنى الدقيق للكلمة.
غير أن الحل السياسى يبدو بعيدا فى ظل تدفق الأسلحة «من كل جهة على الأطراف المتنازعة» ــ حسب تعبير المبعوث الأممى إلى ليبيا «غسان سلامة»، والخطوة التى أقدم عليها «أردوغان» تؤشر إلى استحالة التوصل إلى مثل هذا الحل بالاجتماعات المقررة فى العاصمة الألمانية برلين مطلع العام المقبل.
الاحتمال الأرجح اتساع نطاق المواجهات العسكرية، فلا مصر ولا دول عربية أخرى، ولا روسيا نفسها، ولا فرنسا التى تناهض سياسات «أردوغان» فى شرق المتوسط لأسباب تتعلق بمصالحها الاستراتيجية والنفطية، سوف تمكنه من إنشاء قواعد عسكرية فى ليبيا أو التغول على استراتيجية شرق المتوسط.
هذا القدر من التوتر أثر ــ بالضرورة ــ على اجتماعات قمة حلف «الناتو» فى العاصمة البريطانية لندن، التى اختُتمت أمس.
«الناتو» يعانى من حالة «موت دماغى» بتعبير الرئيس الفرنسى «إيمانويل ماكرون» داعيا إلى منظومة أمنية أوروبية جديدة تستبعد بالضرورة الولايات المتحدة وتركيا.
«ترامب» من جانبه يطالب الدول الغربية أعضاء الحلف بدفع تكاليف أمنهم دون اعتماد على خزانة بلاده.
وهذا مشروع تحلل من حسابات ما بعد الحرب العالمية الثانية.
«أردوغان» يتكفل بالملاسنات مع «ماكرون» التى تؤشر إلى عمق أزمة «الناتو» فى تعريف دوره ومستقبله.
بأى قراءة موضوعية لحسابات القوة والمصالح فى عواصف شرق المتوسط لا يمكن لـ«رجب الآخر» أن يكسبها بمغامرات القفز على الحبال المختلفة.