سنة أولى ثورة: درس أول

فوّاز طرابلسى
فوّاز طرابلسى

آخر تحديث: الخميس 5 يناير 2012 - 9:10 ص بتوقيت القاهرة

آن الأوان للعمليات الجارية فى المنطقة العربية على امتداد العام الفائت أن تتخذ تسميتها المناسبة. نحن شهود على ثورات. مادتها الرئيسية جماهير واسعة تعبر عن نفسها من خلال الحضور اليومى للملايين فى الشوارع والساحات والميادين والدوارات على امتداد سنة بأكملها وهو امتداد زمنى نادرا ما تسنى لعملية ثورية بهذا الحجم والاتساع على مدى بلدان عربية عدة.

 

وهى ثورة ذات طابع جذرى صارخ. إسقاط أربعة حكام استبداديين، وتقديم ثلاثة منهم إلى المحاكمة بتهم تتعلق بالمسئولية عن قتل المحتجين السلميين والفساد. لقد خلخلت أركان الانظمة الاستبدادية فى المنطقة وطرحت تحديات عديدة على توازنات القوى الاقليمية والدولية. والى هذا، نجحت العمليات الثورية إلى الآن فى قطع الطريق أمام التضحية بالحكام من أجل إنقاذ الاسس التى تقوم عليها أنظمة الاستبداد: ركيزتها العسكرية الأمنية، آلياتها الاقتصادية المافياوية، تسلط الحزب الواحد أو العائلة الواحدة أو العشيرة الواحدة على السلطة والثروة، حكم الرئيس الاوحد مطلق الصلاحيات، وغلبة السلطة التنفيذية على السلطتين التشريعية والقضائية.

 

بناء عليه، نحن إزاء ثورات ديمقراطية. والديمقراطية فى بلادنا ثورة، تحديدا لأنها تسعى إلى تفكيك أنظمة الاستبداد تلك والتحويل الجذرى لعلاقات الحكام والمحكومين وفق تعاقد جديد يقوم على انتخاب المحكومين لحكامهم ومحاسبتهم واستبدالهم عند الحاجة وفقا لدساتير ذات مرجعية مدنية، تكرس حياد الدولة الدينى والمساواة السياسية والقانونية بين المواطنين وفى مؤسسات ووفق قوانين تضمن لهم ذلك.

 

والعمليات الجماهيرية الجارية ثورات لأنها تعيد الاعتبار إلى الارادة الذاتية المستقلة للجماهير العربية فى الفعل والتأثير والاختيار. ولكن بقدر ما هى مستقلة تتعاظم محاولات ضبطها واحتوائها والاستيعاب، الاقليمية والدولية. والسباق سباق وقت.

 

●●●

 

تتشكل الآن شرعيتان: شرعية شكلية عجولة، تواطأت عليها قوى المعارضة التقليدية مع قوى الردة العربية والغربية، لاستعجال الانتخابات النيابية والرئاسية وتشكيل الحكومات بحيث تقطع الطريق على ان تلقى الجماهير بوزنها ومفاعيل ثوراتها على الدساتير والقوانين الانتخابية والمؤسسات. وشرعية ثانية هى الشرعية الشعبية الثورية، المتحركة فى الشوارع والساحات والميادين والدوارات.

 

من هنا ان الجامع المشترك بين هذه القوى المحلية والخارجية هو السعى لإخراج الجماهير من الشارع ومن القدرة على الفعل والتأثير والتغيير. هى عملية جارية ومتسلسلة منذ مطلع العام المنصرم. من قمع اعتصام «ساحة الساعة» فى حمص، إلى احتلال «دوار اللؤلؤة » فى البحرين، إلى مجزرة «ساحة التغيير» فى صنعاء والقصف المدفعى على مدينة تعز، وقطع الطريق على وصول المحتجين السوريين إلى ميادين حماة وحمص ودمشق بالنار، خلال زيارة مراقبى الجامعة العربية، وصولا إلى سد المزيد من المداخل إلى ميدان التحرير فى القاهرة فى الأيام الأخيرة. فليس صدفة ان ينطوى كل مشروع وساطة عربى أو إقليمى أو دولى على بند يتعلق بإخلاء الساحات والميادين والشوارع. ولا هو بالغريب ان يدافع السفير الأمريكى فى صنعاء عن اطلاق القوات الموالية لعلى عبدالله صالح النار على مسيرة سلمية تحركت من تعز إلى صنعاء تحت شعار «مسيرة الحياة» على اعتبار انها تظاهرة «استفزازية»!

 

حقًا إن الحياة مستفزة!

 

وحقا ان بقاء الثورة بات رهنا ببقائها فى الشارع. خصوصا ان لاخراج الجماهير من الشارع وظيفة اخرى هى قطع الطريق على عدوى الثورات من الوصول إلى منطقة «الأمن النفطى» وأنظمتها السلالية التى لا تدرى كم هى تساهم فى «جَلْب الدب إلى كَرْمِها» بترويجها للثورات الجارية والتدخل فيها ولو من قبيل احتوائها. وإذا كان ثمة من توقع للعام المقبل فهو توقع هذا الانتشار للعدوى الثورية.

 

●●●

 

ولكن لم يعد الحديث عن استمرارية الثورة بالشأن البسيط أو المعطى سلفا. تنهض فى وجهها حجج واتهامات تبدأ بالفوضى والتآمر ولا تنتهى مع تخريب الاقتصاد. من هنا ان طاقة الاحتمال المدهشة التى نمت عنها الجماهير الثائرة تقف الآن أمام امتحان القدرة على الاستمرار. وهو الاسم الآخر للفوز فى سباق الوقت مع قوى الردة الداخلية والخارجية.

 

وأول مسألة هنا هى القدرة على إشراك القوى الاجتماعية ذات المصلحة فى الثورة. عندما انطلقت الثورات حاملة شعار «عمل، حرية، خبز»، لم تكن تعين الأهداف فقط، كانت تعلن المشاكل الرئيسية التى دفعت بالملايين إلى الثورة من أرياف سوريا واليمن إلى العاطلين عن العمل فى المغرب مرورا بعشوائيات المدن المصرية على سبيل المثال لا الحصر، نعنى: البطالة، الاستبداد، والفوارق المناطقية والاجتماعية. وليس صدفة ان تتلاقى قوى الحفاظ على الأمر الواقع على فصل الصلات بين المطالب السياسية والمطالب الاقتصادية والاجتماعية. تبدأ المحاولات هنا بتجريم التحركات الاجتماعية، من اضرابات واعتصامات عمالية وتحركات فلاحية، كما فى حالة مصر، ولا تنتهى مع افتتاح الرئيس التونسى الجديد المنصف المرزوقى ولايته بإعلان «هدنة اجتماعية» لمدة ستة أشهر. والكل يسعى لتطمين مؤسسات العولمة الرأسمالية النيوليبرالية والمستثمرين الاجانب.

 

إن تأمين استمرارية الثورات بات يعنى إعادة شحن الطاقات الشبابية الجديدة بمولدات الزخم الكامنة فى الحركات والاحتجاجات الاجتماعية.

 

وأما المسألة الثانية فتتعلق بالأشكال التنظيمية. لم تكن عفوية الثورات صدفة من الصدف. نتجت عن تعادل بين جهازين للتمثيل والمطالبة ادى إلى شلل الاثنين. فمن جهة، بقايا أحزاب المعارضة القومية واليسارية خصوصا، وقد فقدت الرؤية والجاذبية، يكتفى معظمها بلعب دور «معارضة صاحبة الجلالة» وأقصى الطموح الحدود الدنيا من المشاركة السياسية. ومن جهة ثانية، منظمات غير حكومية انتشرت كالنار فى الهشيم بين الشباب والطبقات الوسطى خلال ربع القرن الأخير. إلا أنها من حيث أجنداتها المحكومة بالنيوليبرالية، ومصادر تمويلها، وفى تجزئتها قضايا المجتمع إلى قطاعات منفصلة (حريات، ديمقراطية، مرأة، شباب، أقليات، بيئة، قيادة، فساد، تنمية ميكروية... الخ)، وفى نزعتها التبشيرية والتربوية أدت إلى نشر النفور من النشاط السياسى واسقطت مسألة السلطة من الحساب. فكم كان معبرا ان تأتى الثورات بشعار يشكل تصحيحا نقديا بليغا للطرفين: الشعب يريد إسقاط النظام.

 

●●●

 

المطلوب الآن وضع دلالات هذا الشعار موضع التطبيق. من هنا ان استمرارية الثورة مرهونة بالحيلولة دون تحول عفويتها إلى عبء عليها بعد ان كانت أحد عناصر قوتها. والسؤال هنا هو عن القدرة على رفد العفوية بمقدار من القيادة الواعية المسترشدة برؤية مجتمعية شاملة وعلى ابتكار أشكال جديدة من الوحدة والتنظيم ووسائل العمل تتجاوز الاشكال الحالية وترقى إلى مستوى ما أطلقته الثورات من خيال وآمال.

 

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved