اللقاح هدية العلم للإنسانية

مواقع عربية
مواقع عربية

آخر تحديث: الثلاثاء 5 يناير 2021 - 7:40 م بتوقيت القاهرة

نشر موقع درج مقالا للكاتبة ندى محمد تقول فيه إن التوصل للقاح فيروس كورونا هو هدية عام 2020 وتتحدث عن التراكم العلمى المعرفى الذى ساعد على سرعة إنتاج اللقاح... نعرض منه ما يلى:

يمكن القول إن توصل العلم إلى أكثر من لقاح لفيروس «كوفيد ــ 19» هو أفضل ما حصل فى عام 2020، وإن كان ترافق مع بعض التشويش والانتقاد. إلا أن ذلك لا يلغى أهمية اللقاح، فى نهاية عام وصف بالـ«كارثى»، حصد خلاله فيروس «كورونا» نحو مليون و798 وفاة حول العالم. وإذا كان الفيروس هو أسوأ ما حصل للبشرية منذ أعوام طويلة، فإن اللقاح هو بلا شك أفضل هدية للعالم مع نهاية عام 2020.

اللقاح بين العلم والخرافة
يبدو أن المزاج الشعبى العام بدأ ينجرف فى الآونة الأخيرة نحو لقاح فيروس «كوفيد ــ 19»، وفق نظرة مؤامراتية. وبات اللقاح شغلنا الشاغل، كيف لا ونحن واقعون منذ أكثر من سنة تحت وطأة وباء بات أشبه بنفقٍ لا نهاية له. وما حفلة الجنون ذات الطابع المؤامراتى هذه بخاصة على مواقع التواصل الاجتماعى سوى انعكاس لقلق الناس ومخاوفهم. ولكن ما عزز هذه المخاوف وزاد وقعها هو التصاريح الصادرة من هنا وهناك من شخصيات سياسية أو وجوه فنية معروفة أو أصوات من داخل الحقل الطبى، تتراوح بين التحفظ ورفض تلقى لقاح «كوفيد ــ 19»، أمثال مايا دياب، وهيفاء وهبى، وكارول سماحة، وملحم زين، أو حتى راغب علامة وغيرهم. التشهير بهؤلاء ضرورة إذ من غير المقبول لا بل من المرفوض تضليل العموم عبر نشر ما لا دليل علميا عليه ولا حجة منطقية له.
كان آخر هذه التصريحات ذلك الصادر عن الأمين العام لـ«حزب الله» حسن نصر الله عند سؤاله عما إذا كان سيأخذ اللقاح الأميركى فأجاب بالنفى، وهو ما أثار ارتباكا فى الأوساط الشيعية بشكل خاص، حيث قاعدته الشعبية الأكبر. مع أنه وبحسب التقارير الأخيرة فإن 150 ألف جرعة من لقاح فايزر/ بيونتك الأمريكى سيصل إلى إيران فى الأسابيع الثلاثة المقبلة. كما كان وزير الصحة اللبنانى حمد حسن أعلن التوقيع مع فايزر لحجز حصة صغيرة للبنان فى حدود المليونى جرعة.
السؤال الذى وُجِه لنصرالله انطوى على نوع من الخبث، فهو محرج سياسيا والأكيد أنه لم يكن له من داعٍ بخاصة مع احتمال تأثيره سلبا فى مزاج الشارع الشيعى العام، فى زمن بتنا محاطين فيه بالمعلومات المغلوطة من كل مكان. من الواضح أن السيد لم يرفض اللقاح بالمطلق ولكن رفضه جاء من منطلق سياسى، فهو يرى أن اللقاح «أمريكى الجنسية»! وكأنه بذلك يرسم حدودا جغرافية للعلم، حدودا خاض العلم الكثير للتخلص من تأثير وجودها.
أعادنى هذا التصريح بالذاكرة إلى قصة فليمينج، العالم الذى اكتشف عام 1928 أول مضاد حيوى على الإطلاق، البنيسيلين. هذا الاكتشاف الذى غير مجرى عالمنا للأبد، وأنقذ حياة مئات ملايين البشر منذ ذلك الحين حتى يومنا هذا. لم يؤمن فليمينج يوما أن البنيسيلين ملكه وحده بل سعى ليكون متوفرا للجميع لإنقاذ أكبر عدد ممكن من البشر، وينسب إليه قوله: «أنا لم أخترع البنيسيلين، الطبيعة فعلت ذلك. أنا فقط اكتشفته بمحض مصادفة».
على رغم ذلك لم ينجح فليمينغ فى عزل البنيسيلين كمركب علاجى لوحده، فكانت مساهمة تشاين، هيتلى وفلورى من جامعة أكسفورد، إذ تم عزل البنسلين وتنقيته للمرة الأولى فى التاريخ، كما دراسته واستعماله كمركب علاجى. لم يكن ذلك كافيا طبعا، كانت هنالك حاجة لإنتاج كميات أكبر من البنيسيلين كافية لاستعماله فى معالجة المرضى، نظرا إلى شيوع العدوى البكتيرية بالإجمال. على رغم محاولات من دول أخرى، وحده التعاون البريطانى ــ الأمريكى حينها هو ما جعل ذلك ممكنا. إذ نجحت شركات الدواء الأمريكية فى إيجاد طرائق لإنتاج البنيسيلين وتوزيعه بكميات هائلة سمحت بوصوله إلى العالم أجمع، ولولا هذا التعاون لما كان البنيسيلين كما نعرفه الآن ليكون.
ماذا لو لم يكتشف فليمينج البنيسيلين؟ ماذا لو لم يؤمن العلماء بأنه حق للجميع بغض النظر عن الجنسية أو الطائفة أو اللون؟ ماذا لو لم يتم التعاون الأمريكى؟
ما أحاول قوله هنا هو أن العلم نتاج معرفى إنسانى جمعى لخدمة البشرية جمعاء من دون تفرقة. والذى أنتج اللقاحات ومن ضمنها لقاح «كوفيدــ 19» هو هذا التراكم المعرفى الجمعى والتعاون بين علماء من مختلف الجنسيات والخلفيات حول العالم. الحدود مكانها خارج أبواب المختبرات العلمية لا داخلها. لا هوية جغرافية للعلم.

هل نقاطع الشركات الأمريكية؟
لا يخفى على أحد أننا نعد دولا غير منتجة، إذ نعتمد على الاستيراد كمصدر أساسى للموارد بخاصة تلك الدوائية، كما أن وجودنا على خارطة العلم يكاد يكون لامرئيا. ولا يخفى على أحد أيضا أن سوق الدواء اللبنانى والعربى غنى بأدوية أمريكية أو أوروبية الصنع لسبب بسيط هو تصدر شركات الدواء الأمريكية لائحة الأهم والأكبر فى العالم، ليس فى صناعة الدواء وحسب، بل أيضا المعدات الطبية والعلمية التى تزود المختبرات العلمية حول العالم كشركة Merck العالمية.
لنأخذ على سبيل المثال شركة «فايزر»، أدوية مثل «الفياجرا»، الحبة الزرقاء الغنية عن التعريف! أو «زاناكس» و«زولوفت» و«أدفيل» و«فلاجيل» وحتى البنسيلين والمورفين، أدوية مألوفة بشدة فى السوق اللبنانى، كلها من صناعة فايزر. غيرها أيضا مثل «ليبيتور» الذى يعتبر من أهم الأدوية وأكثرها إيرادا، أو حتى لقاح المكورات الرئوية بريفنار. نعم هذا صحيح. فماذا نحن فاعلون إذا؟ هل حملة المقاطعة تشمل كل أدوية «فايزر» أم لقاحها لـ«كوفيد ــ 19» فقط؟
مختبرات «فايزر» التى أنتجت هذا اللقاح كما غيرها من المختبرات الأمريكية ومعظم المختبرات العلمية حول العالم، يعمل فيها علماء من مختلف العالم بينهم علماء عرب ولبنانيون ممن لم تعطهم بلادهم الفرص. أليس لهؤلاء أيضا نصيب مما أنتجته أيديهم… وعقولهم؟

خذوا اللقاح بسلام آمنين
يبدو أن القلق العام يرتكز على أسئلة حول سرعة إنتاج لقاح «كوفيد ــ 19»، مقارنة مع اللقاحات السابقة وهذا سؤال مشروع يجيب عليه العلم لا أصحاب نظريات المؤامرة.
الآلية العلمية المتبعة ذات معايير محددة دوليا لدراسة معروفة وثابتة، كما أنها فى تطور مستمر نحو الأفضل. ما حصل فى حالة لقاح «كوفيد ــ 19» هو مجرد إنجاز هذه البروتوكولات بطرق أكثر فعالية وبالتالى فى وقت أسرع. حصل هذا لأسباب عدة منها التحرك السريع على نطاق عالمى لاحتواء الأزمة ووضع خطط سريعة لتفعيل ذلك، والرد السريع من المجتمع العلمى حول العالم الذى سمح بتعاون دولى معرفى واسع النطاق. إضافة إلى التعاون الدولى الذى وضع إيجاد حل لأزمة الوباء المستجد فى خانة الأولوية وأنفقت فى سبيله الأموال والمصادر. وأخيرا وليس آخرا، التطور المعرفى والتكنولوجى السريع فى السنوات الأخيرة.
كل هذه العوامل وغيرها سمحت للعلماء بإنجاز ما كان فى الحالات الطبيعية ليأخذ سنوات. ففى خلال أيام فقط من إعلان انتشار مرضٍ جديد تمكن العلماء من تحديد هويته والعامل المسبب وفك شيفرة التركيبة الجينية لفيروس الكوفيد ــ19 . وفى شهر فقط كشف العلماء عن تركيبة شكل الفيروس من خلال تقنية CryoــEM الجديدة، مع تركيز على هوية بروتين السبايك وشكله، فى فيروس «كوفيد ــ 19» الذى دفع العلماء للمباشرة بتصميم لقاح يقوم على تركيبته فورا. أضف إلى ذلك التعاون الدولى لإنجاز التجارب السريرية لآلاف المتطوعين من دول عدة حول العالم، وجهود مئات العلماء، ما سرع العمل وجعله أكثر فاعلية.
بالتالى، فإن التجارب السريرية الأساسية المطلوبة لضمان أمان اللقاح وفاعليته، تم استيفاء شروطها بالفعل على عدد من اللقاحات التى نال بعضها تراخيص الاستعمال الطارئ مثل لقاحات «فايزر/ بيونتك» و«موديرنا». إذا لا داعى للقلق، بل على العكس فنحن أمام إنجاز علمى جمعى يثبت مرة أخرى أن هوية العلم الوحيدة هى خدمة الإنسانية.
فى سياق متصل، تم إعطاء لقاح «كوفيد ــ 19» حتى الآن لأكثر من 600 ألف شخص فى بريطانيا ونحو 2.1 مليون شخص فى الولايات المتحدة الأميركية، من دون الإبلاغ عن أى آثار جانبية خطرة على أن تستمر عمليات التلقيح هذه لتشمل أعدادا أكبر فى الأسابيع المقبلة، بعدما تم إعطاء ترخيص الاستعمال الطارئ للقاح أوكسفورد/ استرازينيكا على الأراضى البريطانية.
إن كان لا بد من شىء فى أوقاتنا العصيبة هذه فهو أن نثق بالعلم كما وثقنا به دائما عند كل اختبار سابق للبشرية، وكما أنتج العلم لقاحات للحصبة والجدرى والكزاز وشلل الأطفال والكثير غيرها، ها هو يعطينا اليوم لقاح «كوفيدــ 19». العلم وحده هو خلاصنا جميعا، من دون تمييز، من هذه الأزمة ومن كابوس الأمراض والأوبئة. وهنا نستعيد ما قاله سالك، العالم (الأمريكى الجنسية بالمناسبة)، الذى كان له الفضل فى إنتاج لقاح لشلل الأطفال عندما سأله صحفى عن براءة اختراع للقاح فكان جوابه: «وهل تحتاج الشمس لبراءة اختراع؟».

النص الأصلى:من هنا

هذا المحتوى مطبوع من موقع الشروق

Copyright © 2024 ShoroukNews. All rights reserved