يجب أن أعيش قرب شجر الليمون
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 5 يناير 2022 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
إن كان علىّ أن أختار أكثر الشجر كرما وأقربه إلى قلبى فهو شجر الليمون، أو الحمضيات بشكل عام. تدهشنى كل شتاء ببهجتها وثمارها، أحب اللونين الأصفر والبرتقالى وهما يتلألآن بين أوراق الأغصان بفرح ودون استحياء. تظهر أشجار الليمون والبرتقال فى وقت ظهور شجرة عيد الميلاد لذا ففى ذاكرتى الحسية أرى أنوار الأعياد وألوان الثمار على الشجر وأشم رائحة البرتقال والقرفة والقرنفل، وأشعر بالبرد فى الشارع وأعمل مربى البرتقال لأهديه للأصدقاء فى موسم الأعياد، كلها أحاسيس مختلطة ربما من فعل خيالى وربما هناك فعلا خيط سحرى يبرق هو الآخر حين تحرك ريح الشتاء غصون الشجرة.
•••
فى سوريا، وربما فى حوض البحر المتوسط عموما، عائلة كبيرة من الحمضيات لكل منها استخدام وطقوس وحتى أمثال. يقال إن فى البيوت العربية القديمة حيث تطل الغرف على فناء داخلى تتوسطه نافورة (بحرة فى اللهجة السورية) يوجد دوما شجرة نارنج، البرتقال المر الذى يؤكل بعد عقده بالسكر ليعطى مربى أظن أن لا مثيل له على الأرض، طعام الملائكة!
•••
لعب الليمون والبرتقال دورا كبيرا فى الثقافة والأدب والموروث الشعبى فى البلدان التى تنبت فيها الحمضيات، وتعد شجرة الليمون مهمة فى أساطير بعض البلاد الأبعد عن حوض المتوسط، ففى البلطيق مثلا هناك إلهة اسمها لايما كانت تتخذ بيتا من شجرة ليمون تجلس فيه للتفكير وحسم قرارات مصيرية. ولطالما كان خشب الليمون هو المفضل لرسم أيقونات فى بعض البلاد الأوروبية الشرقية.
•••
أما فى قلبى، فموسم الحمضيات هو وقت أقف فيه أمام قدر كبير من الماء والسكر أعقد فيه قشر الليمون والبرتقال وأتخذ قرارات مصيرية، تماما مثل ما فعلت الإلهة لايما فى الأسطورة. تغلفنى الرائحة السكرية الممزوجة بزيت قشر البرتقال فأقرر مثلا أننى سأحتفل كل سنة بدورة الحياة ورأس السنة فى شهر مربى البرتقال! نعم فحين أقف أمام قدر المربى على النار أشعر أننى أقلب صفحة إلى العام الجديد: عام مربى الحمضيات خاصتى.
•••
للحمضيات طقوس، كأن يهدينى أصحاب شجر النارنج حصتى السنوية ولا أشتريها. فى دمشق، لا أذكر أننا كنا نشترى ثمار الموسم التى كانت أمى وجدتى تصنعان منها المربى. المربى يجب أن يصنع من فاكهة أهدانا إياها الأقارب والأصدقاء فى موسمها، أو هذه قصة قررتها هنا، اليوم، وأنا أصنع المربى بعد أن مضى عدة سنوات استلمت فيها علبا من النارنج، فى بلاد مختلفة عشت فيها، من أصدقاء تفهموا ولعى بمربى الحمضيات. أنا شبه متأكدة أن جدتى صنعت المربى من أشجار كانت فى حديقتها أو من هدايا كانت تصلها موسميا من الأقارب. وأنا أكاد أجزم أنه كانت أيضا تصلنا هدايا من الأقارب والأصدقاء إلى بيتنا فتعقدها أمى فى السكر.
•••
أعترف أننى لم أكن أعير الحمضيات كالبرتقال والليمون والنارنج والكباد والسفرجل كل هذا الاهتمام حين كنت أعيش فى سوريا، فقد كانت جزءا من محيطى البصرى وكانت رائحتها وطعمتها دوما فى حياتى لم أفكر فيها فهى كانت من الثوابت. بدأ حنينى إليها فى المهجر، حيثما أرى شجرة برتقال يفرح قلبى وأشم رائحة السكر المعقود. أظن أننى شعرت بهذا الفرح لأول مرة فى تونس حين رأيت أشجار البرتقال فى الشوارع ملكا للجميع. كنت هناك فى زيارة سريعة للعمل وأذهلنى وجود البرتقال مزروعا على الأرصفة. تمنيت أن أقطفه وأعمل المربى هناك، فى تونس العاصمة، شعرت أننى حيث أقف أمام قدر سكر على النار فإننى أغرس لى جذورا وأصنع من المكان وطنا حتى لو لأيام.
•••
أنا أعيش اليوم فى الأردن حيث الكثير الكثر من شجر الليمون يطل بالثمار كاللؤلؤ فأقف فى الشارع وأقطف لنفسى أوراقا من الشجرة سوف أضعها على النار فيما بعد حين أطبخ الأرز بالحليب. هذه أيضا عادة دمشقية قديمة أن ننكه الأرز بالحليب ببعض أوراق الليمون أو النارنج فتعطيه عطرا من عطور الجنة برأيى.
•••
استلمت هذا الأسبوع علبة فيها برتقال النارنج وبضع حبات من الليمون والكباد قطفها خالى من حديقة منزلى فى دمشق وأرسلها لى مع صديقة مسافرة إلى الأردن. أنظر إلى الكباد الذى كان دوما بالنسبة لى فاكهة لعمل مربى يحبه كبار السن، قبل أن تدخل الحلويات المصنعة إلى البيوت حيث كانت الضيافة التقليدية حينها إما قشور النارنج أو الكباد المعقودة فى السكر. أنا لم أعمل مربى الكباد فى حياتى من قبل وأظن أننى لم أذقه منذ أكثر من عشرين سنة. أقف إذا أمام فاكهة عتيقة وصلتنى من دمشق وأسمع صوت جدتى يرشدنى فى خطاى. من داخلى أسمع صوتى يذكرنى بأننى لن أعيش سوى قرب شجر الليمون، أكرم الأشجار.
كاتبة سورية