أزمة أوكرانيا وتَشَكُلُ النظام الدولى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 5 فبراير 2022 - 8:10 م
بتوقيت القاهرة
منذ أربعة أسابيع مضت، تناولت هذه المساحة من الشروق أزمة أوكرانيا على أنها صدى مصطنع للحرب الباردة. أطراف أزمة أوكرانيا هم كلهم اللاعبون الأساسيون فى الحرب الباردة واللاعبون الثانويون فيها. والأزمة بشأن نزاع هو نفسه من بقايا الترتيبات التى انتهت إليها الحرب الباردة، أو بالأحرى هو نزاع حول تعديل هذه الترتيبات. الولايات المتحدة تبغى تعديل هذه الترتيبات لتصبح تعبيرا عن اندحار كامل لروسيا، الدولة الوريثة للاتحاد السوفيتى، أمام التحالف الأطلسى مدعوما بالاتحاد الأوروبى. انضمام أوكرانيا المحتمل فى المستقبل للحلف الأطلسى، وربما من بعدها جورجيا، ضد إرادة روسيا، يعنى حصار هذه الأخيرة وهزيمة إرادتها مقابل انتصار الولايات المتحدة وحلفائها وإراداتهم. روسيا بدورها تريد نوعا من إعادة النظر فى الترتيبات التى نشأت إبان ضعفها بعد انهيار الاتحاد السوفييتى وتجسدت فى انضمام الدول التى كانت أعضاءً فى حلف وارسو إلى حلف شمال الأطلسى وإلى الاتحاد الأوروبى. هذه الترتيبات أدت فى نظر روسيا إلى تهديد أمنها.
صراع الإرادات المذكور وأثره فى إعادة تشكيل النظام الدولى هو موضوع مقال اليوم الذى سيتفادى تكرار ما ورد فى المقال السابق. هذا المقال يعتبر أن الصراع يكشف عن تباينات فى داخل نفس التحالف الأورو أطلسى. هذه التباينات هى نفسها تعبيرات عن إعادة تشكل النظام الدولى. ثم إن هذا الصراع تصاحبه متغيرات أخرى فى العالم الأرحب قد تكون أكثر تأثيرا منه فى تشكل النظام.
• • •
أول ما يتطلبه التحليل هو النظر فى الإرادات نفسها. لروسيا إرادتها التى تنسب للرئيس فلاديمير بوتين، غير أنه لا يبدو أن فى روسيا إرادات أخرى غير تلك التى يعبر عنها الرئيس الروسى. يوحِّد الروس شعورُهم بالغبن، هم الذين يعتبرون أنفسهم منذ ما قبل الثورة الروسية والاتحاد السوفييتى دولة كبرى يحق لها أن تحترم. فى المقابل، فى داخل التحالف الأوروأطلسى، الإرادات متعددة وهو تعدد يرجع إلى الاختلافات الجغرافية والتاريخية والسياسية والاقتصادية بينها. الدول الصغيرة المتاخمة لروسيا كدول البلطيق الصغيرة الثلاث، التى ابتلعتها روسيا القيصرية ومن بعدها الاتحاد السوفييتى، تخشى على استقلالها وسيادتها فتتخذ موقفا مناوئا لروسيا وتتمسك بحقها فى أن ينشر الحلف الأطلسى أى أنواع من السلاح فى أراضيها. من بين هذه الدول الثلاث، نقلت إستونيا بالفعل سلاحا إلى أوكرانيا. بولندا، التى لا تبعد سوى 800 كيلومتر عن روسيا وتذكر أنها فى تاريخها تعرضت للتقسيم بين روسيا والإمبراطورية النمساوية المجرية وبروسيا، تساند أوكرانيا، التى تربط غربها بها وشائج ثقافية، وتتخذ موقفا مناوئا لروسيا وهى تتمسك أيضا بحقها وحق التحالف فى أن يتمركز جنوده وأن ينشر أى أنواع من السلاح فى أراضيها.
الاختلافات الاقتصادية تفسر بدورها التباين فى المواقف. روسيا هى ثانى شريك تجارى لألمانيا والأهم أنها مصدر للغاز الطبيعى لها وأنبوب الغاز نورد ستريم 2، عندما يبدأ تشغيله، سيزيد من اعتماد ألمانيا على الغاز الروسى وفى نفس الوقت سيعزز من اعتماد روسيا على السوق الألمانية. وزيرتان ألمانيتان، هما وزيرتا الخارجية والدفاع، أعلنتا أن أنبوب الغاز سيبقى بعيدا عن تطورات الأزمة الأوكرانية. قائد البحرية الألمانية سخّف أثناء زيارة للهند فكرة أن روسيا تريد غزو أوكرانيا مضيفا أن من حق روسيا أن تلقى احترام «الغرب». صحيح أن قائد البحرية الألمانية اضطر للاستقالة وأن المستشار الألمانى كذّب وزيرة دفاعه المنتمية لنفس حزبه، ولكن ما قيل قد قيل وهو يكشف عن موقف له اعتباره فى داخل ألمانيا التى رفضت على أى حال أن يُصدّر أى سلاح من أراضيها أو أى سلاح ألمانى إلى أوكرانيا. فرنسا تتمسك من حيث المبدأ بحق أوكرانيا فى الانضمام للحلف الأطلسى، إن أرادت، وبحق الحلف فى التوسع وضم الدول التى ترغب فى ذلك، ولكنها حريصة على الحوار وعلى التمسك بما يسمى «صيغة نورماندى» وهى اجتماع رؤساء فرنسا وروسيا وأوكرانيا والمستشار الألمانى، أو وزراء خارجياتهم، وهى الصيغة التى مكنت من الوصول إلى اتفاق مينسك الذى وضع حدّا للأزمة الأوكرانية الأولى فى سنة 2014. فى فرنسا، مثلما فى ألمانيا، الاتجاهات السياسية منقسمة ما بين الاتجاهات الحاكمة منذ الحرب العالمية الثانية التى تتخذ مواقف فى مجملها شبيهة بالموقف الرسمى، واتجاهات اليسار الشعبوى وأقصى اليمين التى تنحو إلى تفهم موقف روسيا وتأييده. أقصى اليمين الأوروبى كان مستبعدا من الأنظمة السياسية الداخلية ومن النظام الدولى ومن المشاركة فيها وكل هدفه هو إعادة تشكيل هذه الأنظمة.
المجر، رئيس وزرائها، زار روسيا فى الأسبوع الماضى وعقد صفقة للغاز الروسى الذى تبيعه روسيا لبلاده بعشرين فى المائة من ثمنه فى السوق. رئيس الوزراء المجرى يقف إلى جانب روسيا فى أزمة أوكرانيا، بل إن وزير خارجيته أعلن تململ المجر من معاملة أوكرانيا للأقلية المجرية فيها وهى معاملة تحول دون أن تمنح المجر المساندة لأوكرانيا. هكذا نرى أن دولتين من دول شرق أوروبا الأربع الأعضاء فى مجموعة فيزيجراد هما المجر وبولندا تقفان على طرفى نقيض من بعضهما البعض رغم ما هو معروف عن اشتراكهما فى الخصومة للمبادئ الليبرالية، وهى المبادئ الأساسية لعضوية الحلف الأطلسى والاتحاد الأوروبى، وهما عضوان فيهما.
أما فنلندا والسويد فهما حالتان خاصتان. هما عضوان فى الاتحاد الأوروبى ولكنهما ليسا فى الحلف الأطلسى باعتبار أنهما دولتان محايدتان. فى عزّ أزمة أوكرانيا، اجتمع الرئيسان الروسى والفنلندى ليتباحثا فى شئون الشمال الأوروبى والمحيط المتجمد الشمالى الذى تتولى روسيا حاليا رئاسته الدورية. ومع ذلك، تتمسك فنلندا والسويد بحق أوكرانيا وحق كل دولة، بما فى ذلك حقهما، فى الانضمام إلى الحلف الأطلسى، إن أرادتا ذلك. هما لم تعلنا عن هذه الرغبة ولكن المسألة مسألة مبدأ.
زعيمة التحالف الأطلسى، الولايات المتحدة، تعتبر أن روسيا تهدد أوكرانيا وتصر، من حيث المبدأ هى الأخرى، على حق أى دولة «ديمقراطية» فى أوروبا فى الانضمام إلى الحلف الأطلسى، وكذلك على حق هذا الحلف فى أن ينشر جنوده فى الدول الأعضاء فيه، بما فى ذلك فى شرق أوروبا. وهى أعطت لإصرارها تعبيرا ملموسا، وإن كان رمزيا، بإرسال عشرة آلاف جندى إلى رومانيا.
• • •
العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية تتفاعل بشكل مختلف مع العوامل السياسية فتنتج مواقف متباينة من الأزمة الأوكرانية. من بين العوامل السياسية يبرز اثنان: الخصومة مع الليبرالية، وحرية الدولة فى اختيار تحالفاتها، أو بعبارة أخرى الاحترام الكامل لسيادة الدولة. الخصومة مع الليبرالية لم توحد بولندا والمجر، وهى أدت بالمجر إلى أن تميل لروسيا ذات النظام السلطوى. بميلها لروسيا فى أزمة أوكرانيا خرجت المجر على ما يبدو من إجماع أوروبى على احترام مبدأ سيادة دوله. ولكن هذا الإجماع على المبدأ لا ينسحب على ممارسة هذه السيادة كاملة غير منقوصة. ألمانيا تريد احترام المبدأ ولكنها تتفهم أن يكون ثمة حد لممارسته. فرنسا والاتجاهات السياسية فيها تتخذ موقفا شبيها. أما فنلندا والسويد فتتمسكان بمبدأ السيادة الكاملة ولكنهما تمارسانها محدودةً، وتوحيان بأن هذه الممارسة المحدودة بمحض إرادتهما. هذه المواقف المتباينة للدول الأعضاء فى التحالف الأطلسى وفى الاتحاد الأوروبى ليست نزوات بل إن لها أصولا فى عوامل جغرافية وتاريخية واقتصادية وسياسية، وهى بالتالى يمكن اعتبارها نويات لتغيّر فى النظام الدولى وفى نمط تفاعلاته.
ولكن التغير فى بنية النظام الدولى وفى نمط تفاعلاته لا يقتصر على أوروبا بل إن ما يحدث فيها ليس أهم ما فيه. الصين أعربت على لسان وزير خارجيتها عن تفهمها «لأوجه القلق الروسية المعقولة»، والصين وروسيا توصلتا فى الأسبوع الماضى إلى اتفاق على التعاون الاستراتيجى، والرئيس الصينى فى لقاء افتراضى فى ديسمبر الماضى مع الرئيس الروسى أعلن أن البلدين لا بد أن يقوما بمزيد من الأعمال المشتركة من أجل الحفاظ على مصالحهما الأمنية، كما ينبغى لهما أن يعززا التعاون بينهما لتكون لهما كلمتهما فى الحوكمة العالمية وفى الشئون الدولية. ضغط الولايات المتحدة على كل من روسيا والصين أدّى إلى التقارب بينهما إلى حدّ الحديث عما يشبه التكتل. مثل هذا التكتل وإن بقى فضفاضا يكون ذا أثر كبير فى إعادة تشكل للنظام الدولى. الرئيس الروسى زار الهند فى ديسمبر الماضى، فاستقبله رئيس وزرائها بحرارة. لم يناقش الرجلان أزمة أوكرانيا ولا اتخذت الهند موقفا منها ولكن الرئيس الروسى باعها نظام الدفاع المضاد للصوايخ إس ــ 400 وعقد معها 28 اتفاقية اقتصادية. لم تبال الهند بأن تغضب الولايات المتحدة. هكذا فإنه على الرغم من علاقاتها الوثيقة بالهند فإن الولايات المتحدة لا يمكن أن تعتبرها مصطفّة وراءها فى بنية النظام الدولى. هذا نظام دولى تختلط فيه أنماط العلاقات لتعدد الخيارات فيه، ولا يمكن حتى للدولة الأقوى أن تفرض إرادتها كيفما شاءت فى النظام الدولى.
مثلما حدث ويحدث فى أوروبا ستتفاعل العوامل الجغرافية والتاريخية والاقتصادية والسياسية فى مناطق العالم المختلفة لتحدد مواقف كل من دولها من الأزمات التى تعرض لها ولتوجهها إلى الاختيار بين البدائل المتاحة لها. من المرجح أن يؤدى ذلك إلى تبدل فى أنماط العلاقات وإلى مرونة فى بنيتها. هذا التبدل وهذه المرونة يعززان من حرية دول الجنوب النامية وهما بذلك فى مصلحتها.
تشدد الولايات المتحدة فى أزمة أوكرانيا لا يعنى أنها ستعود إلى تسيد النظام الدولى كما كانت لدى نهاية الحرب الباردة وفى أعقابها. يبدو أن النظام الدولى لن يستقر على بنية ثابتة من الآن فصاعدا.
أستاذ السياسات العامة بالجامعة الأمريكية بالقاهرة