حساب الخسائر فى قضية التمويل الأجنبى لمنظمات حقوق الإنسان: الضحايا الحقيقيون
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الإثنين 5 مارس 2012 - 9:04 ص
بتوقيت القاهرة
على العكس تماما مما تصوره الذين تفتقت عبقريتهم عن اختراع قضية حول ما ادعوه من تهديدات الأمن القومى الناجمة عن تمويل منظمات أجنبية لأنشطة حقوق الإنسان، وهى لا تتعدى فى حقيقة الأمر دعم قدرات منظمات المجتمع المدنى المصرى على مراقبة الانتخابات ونقل الخبرة الدولية فى بناء الأحزاب للأحزاب المصرية بما فيها أحزاب إسلامية، لم تعد عليهم هذه القصة التى روجوا لها بأى نفع، ربما تصوروا أنهم سيكسبون من وراء ذلك شعبية يفتقدونها وسيظهرون أمام الرأى العام المصرى بمظهر الأسد الجسور الذى تثور حميته دفاعا عن الوطن، أو يقدمون لهذا الرأى دليلا على ما سموه بالقوة الثالثة التى تنشر الخراب فى مصر، ولكن، وكما يدرك الجميع الآن، ارتدت السهام التى أطلقوها إلى نحورهم، فقد باعوا شرف مصر بما يقدر باثنين وعشرين مليونا من الجنيهات، وهو ثمن بخس للغاية لقيمة لا تقدر بثمن، ولم يقدموا دليلا واحدا على أن هؤلاء الذين قدموهم للمحاكمة قد انخرطوا فى أى من الأنشطة التى اتهموهم بها، ولم يعودوا يتحدثون عنها، مكتفين بالقول بأن مجرد الحصول على أموال من الخارج واستخدامها فى مصر دون الحصول على الموافقة المسبقة للحكومة المصرية هو انتهاك خطير للقوانين المعمول بها فى البلاد، وتناسوا أنهم سمحوا بذلك منذ سنوات، بل إن الجهات الشاكية نفسها، ومنها مثلا وزارة التعاون الدولى، قد تلقت منحا من إحدى المنظمات التى قدمتها وزيرتها للمحاكمة، كما أن المحكمة الدستورية العليا استفادت من بعض منح نفس هذه المنظمة. ولكن الخسائر فى هذه القضية لم تقع فقط على من آثاروها ونفخوا فيها النيران منذ البداية، ولكن شظاياها تطايرت وسقطت على أهم المؤسسات فى مصر، وليس من السهل ترميم ما تهدّم جراء هذا الأسلوب فى التعامل مع هذه القضية.
الضحية الأولى: صورة مصر فى الخارج
الخسارة الأولى تمس صورة مصر فى الخارج، ويكفى أن نقتبس ما قاله رئيس الوزراء الروسى والذى سيصبح خلال أيام رئيس دولته من جديد، فقد صرح منذ أسبوع بأن أحدا لا يعرف مع من يتحدث فى مصر، لأنه ليست هناك سلطة واضحة فى البلاد، ويكفى أن نشير أيضا إلى الخطاب الذى وجهه سبعة عشر من وزراء الخارجية السابقين فى دول أوروبية وآسيوية كلهم يطلبون من مصر إغلاق ملف محاكمة ناشطى حقوق الإنسان من أجانب ومصريين. لم يدرك القائمون على إدارة شئون مصر بعد الثورة، كما لم يدرك من حكموا مصر قبلها ،أن العالم لم يعد يرى فى التعاون بين منظمات حقوق الإنسان، ولا فى دعم أنشطة المشاركة السياسية اعتداء على السيادة الوطنية، بل يمكن القول إن من حكموا مصر قبل الثورة كانوا أشد حرصا فى تعاملهم مع هذه القضايا، ومع أنهم بكل تأكيد لا يحبون مثل هذه المنظمات ولا يرحبون بأنشطتها، فإنهم لم يذهبوا إلى مثل هذا الحد الذى وصل إليه من خلفوهم فى عدائهم لهذه المنظمات. السلطة القائمة فى مصر بعد الثورة تتصرف على النحو الذى تعرفه كل البلدان غير الديمقراطية فى تعاملها مع قضايا حقوق الإنسان.
الضحية الثانية: أسلوب صنع السياسة الخارجية فى مصر
لا شك أن أى طالب مبتدئ فى مجال دراسة السياسة الخارجية سوف يحكم على الأسلوب الذى تم به التعامل مع هذه القضية بأنه أسوأ أسلوب ممكن. لا أظن أنى أكن ودا كبيرا للسياسة الخارجية الأمريكية ولا لكثير من جوانب نظام الحكم فى الولايات المتحدة الأمريكية، ولكن مصلحة مصر بعد الثورة هى فى الحفاظ على علاقات ودية مع جميع الدول بما فى ذلك القوى الكبرى، وتجنب تصعيد الخلافات معها إذا ثارت بحيث لا يهدد استمرار العلاقات الطيبة طالما أن هذه الدول لا تعتدى على مصر ولا تهدد مصالحها الحيوية. وفى هذه القضية تحديدا لا دور يذكر للمؤسسة الأولى المسئولة عن صنع السياسة الخارجية، وهى وزارة الخارجية، وسمح بعض المسئولين لأنفسهم بأن يرددوا أقوالا لا يقوم عليها أى دليل. ولو صح ما نسب إلى وزيرة التعاون الدولى فى أقوالها أمام المحققين من أن الولايات المتحدة وإسرائيل يريدان تهديد الاستقرار فى مصر، ولأنهما لا يمكنهما فعل ذلك مباشرة، فإنهما يستخدمان منظمات حقوق الإنسان لتحقيق هذا الغرض. فإن ذلك يقتضى ردا أبعد بكثير من مجرد تقديم بعض العاملين فى مؤسسات أمريكية فى مصر للمحاكمة، ولكن هل هذا كلام مسئول؟. هل هناك حتى الآن دليل على أن ما قامت به هذه المنظمات كان يمثل تهديدا للاستقرار فى مصر. وقد نشرت جريدة الشروق تفاصيل ما كانت المنظمات الأمريكية تقوم به، وهو لا يخرج عن تنظيم ندوات تدريبية حول كيفية القيام بحملات انتخابية وأساليب نشر الوعى الانتخابى بين المواطنين، ولو كان ما نسب إلى وزيرة التعاون الدولى صحيحا لكان من المفروض المبادرة بقطع العلاقات مع الولايات المتحدة فورا وطرد سفيرتها، بل وربما الاستعداد لضرب مصالحها على امتداد الوطن العربى، ولكن لا يبدو أن أعضاء المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد اقتنعوا بذلك، فقد ذهب بعضهم للولايات المتحدة فى مهمة مستحيلة، وهى إقناع الإدارة الأمريكية بوجاهة موقف الحكومة المصرية، ولم ينجحوا فى ذلك بكل تأكيد وذلك للبون الشاسع بين تهويل ممثلى النائب العام وبعض مؤسسات الإعلام التى لم تتخل عن عاداتها القديمة فى ترديد وتنغيم ما يخرج من فوه السلطة، وبين حقيقة نشاط هذه المنظمات.
الضحية الثالثة: هيبة القضاء المصرى
كم كان هذا الكاتب، وكثيرون من المصريين مثله، يود لو لم يجر إقحام القضاء فى هذه القضية والاحتفاظ له بصورته المتزنة والمنصفة والنقية فى أذهان المصريين، ولكن طلب هيئة المحكمة المكلفة بنظر هذه القضية التنحى لشعورها بالحرج، وما تردد من أنباء عن أن سبب الحرج هو مطالبة رئيس محكمة استئناف القاهرة لها بمراجعة قرار حظر سفر الأجانب المتهمين والذين لم يحضروا المحاكمة أصلا، والتساؤل عن الأسباب التى دعت رئيس محكمة القاهرة لطرح هذا المطلب على هيئة المحكمة يدعو إلى الذهن أفكارا لا تشرف القضاء، كما أنها توحى بعدم استقلال القضاء فى مصر بعد الثورة، فليس من المعروف أن لرئيس محكمة استئناف القاهرة مصلحة مباشرة فى هذه القضية، وتثور التساؤلات عن الأسباب التى تدعوه إلى طرح مثل هذا المطلب، وفوق ذلك ما هو موقف السلطات الأعلى من تلك القضية، وهل كان الترتيب لهبوط الطائرة العسكرية الأمريكية فى مطار القاهرة سابقا أو لاحقا على بدء المحاكمة، وما هى التفاهمات التى سبقت قدومها إلى القاهرة وتغيب هؤلاء المتهمين عن حضور محاكمتهم؟ وكيف يتم كل ذلك من وراء ظهر القضاء؟
الضحية الرابعة: حكم القانون فى مصر
كما سقطت شظايا مسار هذه القضية على مفهوم حكم القانون فى مصر، فلنسلم بأن قوانين مصر تحظر على الأجانب فى مصر العمل كفروع لمنظمات أجنبية دون الحصول على موافقة الحكومة المصرية، وألا ينفقوا أموالا على أنشطة معينة دون إذن هذه الحكومة، ولكن إذا كانت هذه القوانين قائمة فلماذا لم يجر العمل بها منذ سنوات، ولماذا قبلت أجهزة حكومية التعامل مع هذه المنظمات أو فروعها فى مصر، ولماذا تثير سلطات فى الحكومة أو فى نظام الحكم فى مصر هذه القضية فجأة وكأنها لم تكن تعرف بذلك من قبل، ثم كيف تتغاضى عن تطبيق قوانينها بالسماح لهؤلاء الأجانب بمغادرة البلاد، مع الإدعاء بأن القضية لم تحسم بعد، وأنهم مطالبون بالحضور من جديد للوقوف أمام هيئة محكمة جديدة، فهذا هو معنى السماح لهم بالسفر بعد دفع الكفالة، وهل هناك من يعقل أنهم سيعودون بالفعل إلى مصر لخوض تجربة المحاكمة مع كل التشهير بهم فى الإعلام الصديق للحكومة، وكل حكومة. ألا يبدو القانون فى هذه الحالة، وهو بالفعل لعبة، تستخدم أولا تستخدم وفق حسابات من يملك تسليطه على رقاب العباد، وهل يحظى كل من يتواجد على أرض مصر بنفس المعاملة، إذا كان الأجانب قد سمح لهم بالهرب، فماذا عن المصريين المتهمين الذين لا يجدون بلدا سوى مصر وطنهم يلجأون إليه. وهل يتسق هذا التفريق فى المعاملة مع مفهوم حكم القانون؟.
الضحية الخامسة: قضية حقوق الإنسان
وللأسف الشديد، تساقطت أكبر شظايا هذه القضية على منظمات حقوق الإنسان، فمع الحملة التى شنتها الأقلام والقنوات والإذاعات الصديقة للحكومة على المنظمات الأجنبية وناشطى حقوق الإنسان، وإقحام قضايا السيادة الوطنية وكرامة مصر فى النقاش العام حول هذه القضايا، أصبحت جمهرة كبيرة من المواطنين تنظر إلى نشطاء حقوق الإنسان على أنهم عملاء لقوى أجنبية تعمل ضد صالح الوطن، وأنهم يتلقون أموالا ضخمة من الخارج يصرفونها على ملذاتهم، وأنهم جميعا مثل تلك الناشطة، التى تردد فى الإعلام الصديق للحكومة أنها كانت تقيم فى إحدى العشوائيات، ثم انتقلت لشقة اشترتها فى حى الزمالك بفضل ما حصلت عليه من أموال أجنبية بدعوى نشاطها فى مجال حقوق الإنسان، وبالمناسبة لم يرد اسمها ضمن من قدموا للمحاكمة فى هذه القضية. وهكذا فبدلا من الإشادة بالدور الذى لعبته منظمات حقوق الإنسان فى كشف انتهاكات حقوق الإنسان فى ظل نظام مبارك، ومساعدتها على نشر الوعى بهذه الحقوق بين المواطنين تتعرض هذه المنظمات للتشهير والتشنيع، والذى يصدقه قسم كبير من المواطنين، وهو مما يجرد هؤلاء المواطنين عن واحد من الأسلحة التى كان يمكنهم استخدامها فى الدفاع عن حقوقهم
من المسئول؟
لقد طالب أعضاء فى مجلس الشعب بحضور رئيس الوزراء ووزير العدل لاستجوابهم عن المسئولية فى السماح للمتهمين الأجانب فى هذه القضية بالسفر بالمخالفة لأحكام القانون، وبالإفصاح عن أبعاد ما يوصف بالصفقة التى أدت إلى عدم حضورهم المحاكمة ومغادرتهم أرض الوطن. كم أتمنى أن يعفو رئيس الوزراء ووزير العدل عن خوض هذه التجربة، فلا شك أن لديهما أمورا أخرى يجب أن يهتما بها، وأن يبحث هؤلاء الأعضاء عن المسئول الحقيقى، إذا كانت لديهم الإرادة، وهو بالتأكيد ليس عضوا فى مجلس الوزراء.