مأزق الديمقراطية.. فى مجتمع مزدوج الشخصية
جلال أمين
آخر تحديث:
الجمعة 6 أبريل 2012 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
مازلت أذكر جيدا صورة المجتمع المصرى عندما عدت من دراستى بالخارج فى منتصف الخمسينيات، أى منذ ما يقرب من خمسين عاما، وكم كانت مختلفة عن صورته الآن.
كان من الممكن وصف المجتمع المصرى حينئذ بأنه «مجتمع مزدوج الشخصية»، كما أن هذا ممكن أيضا اليوم، ولكن من الممكن فى الحقيقة استخدام هذا التعبير لوصف أى مجتمع فيه الغنى والفقير، المتقدم تكنولوجيا والمتخلف، المنفتح على العالم والمنغلق، المتأثر بشدة بثقافة أجنبية عاتية والمنعزل عنها أو المختلفون فى الدين أو لون البشرة.. إلخ وقد كان فى المجتمع المصرى فى منتصف الستينيات كل هذا، الغنى والفقير، المتأثر بثقافة أجنبية وغير المتأثر بها.. إلخ.
ولكن كم كانت الازدواجية فى ذلك الوقت رقيقة ومهذبة، بالمقارنة بتوحشها الآن.
فى منتصف الستينيات كانت مصر يحكمها نظام عبدالناصر، وكان نظاما أقرب إلى الانفلات منه إلى الانفتاح على العالم. لا تدخلها الشركات الأجنبية للاستثمار إلا بشق الأنفس، وتستورد السلع الضرورية دون الكمالية، ولا يسمح للسفر إلا بسبب تعتبره السلطات وجيها، والسياحة محدودة، والدولار وغيره من العملات الأجنبية أندر من الخل الوفى، كما توجه الإنتاج فى المقام الأول إلى السوق المحلية، وهو نمط للإنتاج يحمى المجتمع من الازدواجية بأكثر مما يؤدى إليه الإنتاج للتصدير.
طبق عبدالناصر من السياسات ما أدى إلى تقريب ــ لا شك فيه ــ بين الطبقات، ومن ثم التخفيف من درجة الازدواجية بين الغنى والفقير، وبين المدينة والقرية. ولكن نجاح عبدالناصر فى التخفيف من الازدواجية تحقق أيضا فى خارج الاقتصاد؛ توسع نظام عبدالناصر فى التعليم توسعا كبيرا، ورغم أن ذلك اقترن بانخفاض فى مستوى التعليم بوجه عام، فقد ظل التعليم مصريا خالصا (أو ما يقرب جدا من هذا). بل حتى المدارس الأجنبية التى ورثها نظام عبدالناصر من العهد الملكى جرى تمصيرها، اسما ومحتوى، فلم يسمح لها بالتدريس باللغة الأجنبية إلا فى المواد التى يصعب تعريبها. وأرغمت هذه المدارس على تدريس المواد التى لها صلة قريبة أو بعيدة بالثقافة القومية، باللغة العربية، وطبقا للمقررات التى تضعها وزارة التعليم المصرية. تدهور مستوى التعليم أيضا فى هذه المدارس التى كانت أجنبية، ولكنها لم تخرج لنا تلاميذ ذوى ألسنة معوجة، أو جاهلين جهلا تاما بثقافة أمتهم. أما الجامعات الأجنبية فلم نر جامعة أجنبية واحدة تدخل مصر فى عهد عبدالناصر، أو حتى تحاول ذلك، وإنما أبقى فقط على الجامعة الأجنبية الوحيدة التى كانت موجودة منذ 1920 (الأمريكية) وحتى هذه، فرض عليها تدريس اللغة العربية لطلبتها من المصريين، ومادة جديدة تسمى «المجتمع العربى».
نعم، لقد دخلت اللغة العربية فى محنة مع قيام ثورة 1952، لقد سمح الضباط لأنفسهم بأن يكثروا من استخدام العامية فى خطبهم (بعد أن كان هذا يعتبر شيئا مشينا للغاية لدى سياسيى ما قبل 1952)، بل بدا وكأن الضباط يشعرون بأن هذا التساهل فى تطبيق قواعد اللغة نوع من أنواع التقرب إلى الشعب وضرب الاستقراطية.
كان هذا بداية للاستهانة بعنصر من عناصر الثقافة القومية (بصرف النظر عن علاقته بقضيته القومية العربية).
وقد شجع هذا التساهل على تدهور لغوى جاد، ساهم فيه أيضا، بلا شك، ما طرأ من تدهور على مستوى التعليم بصفة عامة مع التوسع الكبير فى فتح المدارس والتساهل فيما يتعلق بمستوى المدرسين.
ولكن كل هذا كان محنة بسيطة للغاية إذا قورن بما تمر به اللغة العربية من محنة اليوم.
لم يقض نظام عبدالناصر بالطبع على كل أسباب التوتر بين المسلمين والأقباط، ولكن من المدهش، عندما يعود المرء بذاكرته إلى تلك الأيام، كيف أدت قوة الدولة والتزامها بمشروع وطنى لا يميز بين المنتمين إلى الأغلبية الدينية والأقلية، إلى تخفيض هذا التوتر إلى حده الأدنى، فلم يزد هذا التوتر طوال الخمسينيات والستينيات عما كان أيام العهد الملكى، حينما التزم الجميع بالسعى لتحقيق هدف واحد هو التخلص من الاحتلال الإنجليزى. لا شك أن إعلان عبدالناصر، ابتداء من منتصف الخمسينيات أنه ملتزم أيضا بالقومية العربية، قد آثار بعض المخاوف لدى الأقباط من أن يؤدى الذوبان فى محيط أكبر، الغالبية الساحقة فيه من المسلمين، إلى الانتقاص من حقوقهم وحرياتهم فى مصر، ولكن حركة القومية العربية فى ظل عبدالناصر، ظلت ذات توجه خارجى محض، حيث وجهت أساسا ضد الاستعمار الأجنبى.
فى مناخ سياسى واجتماعى واقتصادى مثل ذلك المناخ، لم يكن من الممكن لوسائل الإعلام، سواء التى تسيطر عليا الدولة أو المملوكة للأفراد، إلا أن تعمل فى نفس الاتجاه، أى التخفيف من الازدواجية وليس زيادتها حدة والتهابا.
ـــ
كان هذا هو الحال فى منتصف الستينيات، ومن المذهل كيف بدأ التغيير فى هذا كله مع حلول السبعينيات، بل لقد بدت بوادر بسيطة تنبئ بتحول مخيف، بمجرد وقوع هزيمة 1967.
فالضعف الذى أصاب الدولة المنهزمة فى الحرب أدى إلى تراخى قبضتها فى جميع المجالات، فى السياسة والاقتصاد والثقافة ومختلف أنواع الأنشطة الاجتماعية. ربما كان لتراخى قبضة الدولة فى السياسة بعض المزايا، إذ أضعف من طابعها البوليسى، ولكن كان للضعف الذى أصاب الدولة منذ ذلك الحين آثار مدمرة (مازالت مستمرة حتى الآن)، وكان من بين هذه الآثار توقف عملية الانصهار للعناصر المختلفة فى الأمة فى كتلة واحدة متماسكة، وبداية نمو جديد للازدواجية الاجتماعية.
لقد بدأ تهريب السلع إلى داخل البلاد بعد وقوع الهزيمة وتهريب العملات الأجنبية إلى الخارج، وبدأ تيار الهجرة إلى الخليج وإلى الدول الغربية أيضا، وبدأ تهاون الدولة مع الأثرياء الجدد، وتراخت جهود التنمية والتصنيع التى كانت تعمل على التوحيد لا التفتيت.
ومع توقف المشروع القومى الذى يوحد الناس، بمختلف طبقاتهم وأديانهم بدأ كل فرد يبحث لنفسه عن مشروعه الخاص، وكل طائفة تبحث عن العزاء فى تراثها الخاص.
ثم جاء الانفتاح فى 1974 بضربته القاصمة. لم يكن من الضرورى أبدا أن يؤدى الانفتاح فى مصر إلى نمو الازدواجية الاجتماعية بالصورة البشعة التى حدث بها، بل كان من الممكن أن يساهم فى حل كثير من المشكلات دون أن يصيب المجتمع بهذا التفكك المخيف. لم يكن هناك أى غضاضة فى فتح الأبواب لاستيراد الكتب والمجلات والأفلام الأجنبية، وللسلع الوسيطة اللازمة لزيادة الإنتاج، وأمام الاستثمارات الأجنبية ولكن تحت رقابة الدولة كان من الممكن تطبيق الانفتاح مع الاحتفاظ بالتخطيط، وفتح باب البلد للسياحة دون أن تتحول (باستخدام تعبير أحمد فؤاد نجم) إلى بلد «مستباح». ويمكن أن تقول كلاما مماثلا عن أشياء أخرى كثيرة؛ خصخصة ولكن فى حدود المشروعات التى كان تأميمها خاطئا، مدارس أجنبية تخضع لرقابة صارمة من الدولة، معونات أجنبية لا تدمر قدرتنا الذاتية على الإنتاج، خاصة إنتاج المواد الغذائية الضرورية.. إلخ.
بعبارة وجيزة: إن الانفتاح بالشكل الذى اتخذه فى عهدى السادات ومبارك، لم يكن «إصلاحا» لما أفسدته الستينيات، بل كان استسلاما لكل ما حاولت الستينيات حماية البلاد منه. لم يكن خروجا من سجون عبدالناصر إلى الهواء الطلق، بل انتقالا بقفزة واحدة من معتقل إلى كباريه. لم يكن السادات ولا مبارك يطبقان مشروعا وطنيا بل، ولا أى مشروع على الإطلاق، وإنما كانا يعرضان البلد للبيع.
●●●
أينما نظرت فيما صنعته الأربعون عاما الماضية، وجدت تهاونا مدهشا فى مختلف نواحى الحياة. حتى إذا ما وصلنا إلى 25 يناير 2011، ورفع الغطاء عن الناتج النهائى لهذه الأربعين عاما رأينا مجتمعا منفصم الشخصية، لا يكاد يفهم نصفه ما يقوله النصف الآخر. نصف المجتمع يحبذ أو يروج لارتداء زىّ معين لا يرتديه النصف الآخر. يطلق نصفه اللحية ويتمنى ظهور ما يشبه الزبيبة على الجبهة، والنصف الثانى حليق الذقن وبلا زبيبة نصفه يوافق على وقوف أحد النواب فى مجلس الشعب، ليؤذن للصلاة فى أثناء انعقاد الجلسة، والنصف الآخر لا يوافق على ذلك. نصفه لا يرى ضرورة للوقوف حدادا على وفاة البابا شنودة والنصف الآخر يرى مراعاة شعور الأقباط بالوقوف حدادا. نصفه يرى أن من الواجب أن ترتدى المرأة حجابا (أو حتى أن تنتقب) والنصف الآخر لا يرى أن ذلك واجب، وأنه ليس شرطا من شروط الفضيلة فى المرأة.
نصف الشعب يرسلون أولادهم لمدارس وجامعات حكومية يتخرجون فيها دون أن يجيبدوا لغة أجنبية، والنصف الثانى يرسلون أولادهم لدور الحضانة ثم لمدارس ثم لجامعات يتلقون فيها الدروس بلغة أجنبية.
نصف الشعب يحصل على دخله بالجنيهات المصرية وينفعها على سلع مصرية أو سلع مستوردة من بلاد أجنبية ولكنها منخفضة الجودة والسعر، والنصف الآخر له صلة من قريب أو بعيد بمصدر أو آخر من مصادر العملات الأجنبية، ومن ثم يستطيع شراء السلع الأجنبية عالية الجودة ومرتفعة الثمن، ولا يكاد يرتدى أو يأكل أو يقتنى أثاثا لبيته إلا من السلع المستوردة.. إلخ.
لا نهاية لأمثلة الازدواجية الاجتماعية التى ظهرت بوضوح بعد ثورة 25 يناير، لم تكن هذه الازدواجية بالطبع نتيجة لهذه الثورة، بل اقتصر دور الثورة فى ذلك على رفع الغطاء عنها. ومن ثم فلا يجوز بالطبع أن نقبل قول فلول النظام السابق «انظروا ما كنا نحميكم منه!». فالحقيقة أن نمو هذه الازدواجية حتى وصلت إلى هذه النهاية المحزنة، لم يكن إلا نتيجة أخطاء ارتكبت خلال السنوات الأربعين الماضية، وعلى الأخص نتيجة لممارسة الفساد فى مختلف جوانب الحياة (السياسية والاقتصادية والتعليم والإعلام.. إلخ).
●●●
فى مجتمع بالحالة التى وصل إليها المجتمع المصرى الآن، ما الذى نتوقع أن يحدث إذا فتحت فجأة أبواب التصويت والاستفتاء والاقتراع، أو ما يسمى اختصارا بـ«الديمقراطية»؟
أى نتيجة يمكن أنت نتوقعها؟ هل نتوقع أن تأتى الديمراطية بممثلين للشعب؟ أى شعب؟ وشعبنا منقسم إلى هذا الحد على نفسه، ومزدوج الشخصية بدرجة تدعو إلى الرثاء؟
ذهب الشعبان إلى استفتاء مارس 2011، فقال نصفه (أو ثلاثة أرباعه) نعم، وقال ربعه لا. ثم تشاجر الفريقان فى كل قضية جرى طرحها منذ ذلك الحين. هل نتريث فنختار مجلسا رئاسيا أولا أم نسرع بإجراء الانتخابات؟
هل نضع الدستور أولا أم تجرى الانتخابات قبل ذلك؟
من الذى ينتخب أو يعين لجنة وضع الدستور؟ وهل نراعى أن تمثل المرأة والأقباط وشباب الثورة تمثيلا مناسبا فى هذه اللجنة أم أن هذا ليس ضروريا؟.. إلخ.
بل حتى الكتاب والمفكرون الذين دأبوا لمدة طويلة على اتخاذ مواقف وطنية يستوحون فهيا مصلحة الوطن ككل، وجدوا أنفسهم مجبرين، بسبب هذا الاستقطاب الحاد، على أن يختاروا بين هذا وذاك. هل أنت معنا أم أنت خائن؟ هل أنت معنا أم أنت كافر؟
إنى أعتبر أن واحدا من أهم وأنبل أهداف الثورة فى 25 يناير، كان ولايزال القضاء (أو على الأقل البدء فى محاولة القضاء) على هذه الازدواجية اللعينة فى المجتمع المصرى.
هدف لا يقل أهمية فى نظرى عن هدف الحرية أو العدالة الاجتماعية. وكم كان جميلا منظر الشعب المصرى فى الأيام الأولى للثورة، وقد عانق كل من النصفين النصف الآخر.
عانق المسلم القبطى، وصبت سيدة قبطية الماء لرجل مسلم لمساعدته على الوضوء، ووضع طلاب الجامعات الأجنبية أيديهم فى أيدى طلاب الجامعات الحكومية وتعاون الأولاد والبنات فى إحضار الطلاء وبدأوا يعيدون طلاء الأرصفة وأعمدة النور، وكأنهم يريدون إعادة طلاء أو بناء مصر كلها، وانضمت الميادين فى محافظات مصر كلها، شمالا وجنوبا، إلى ميدان التحرير بالقاهرة، لتهتف نفس الهتافات.. إلخ. وكان المطلوب والمأمول أن يقوم الحكام الجدد، الذين تسلموا السلطة من العهد السابق أن يفعلوا كل ما فى وسعهم لتقوية هذا الالتحام، وأن يبدأوا على الفور فى استئصال الأسباب التى أدت إلى تقسيم المجتمع المصرى إلى قسمين. ولم يكن المطلوب عمله عسيرا أو غامضا (وإن كان إتمام المهمة يحتاج بالطبع إلى وقت). كان واضحا كالشمس ما يجب عمله فى السياسة والاقتصاد والآمن والتعليم والإعلام.. إلخ.
فماذا فعل الحكام الجدد؟ فعلوا العكس بالضبط. فى كل مجال من هذه المجالات فعلوا ما يزيد التوتر حدة، والنار اشتعالا، وما يزيد غضب هذا القسم على ذاك، ويزيد حقد المصرى على أخيه. تظاهر الحكام الجدد بأنهم يدعون إلى «حوار»، من أجل الوصول إلى «توافق»، بينما هم يفعلون كل ما يلزم لتحويل الحوار إلى شجار، والتوافق إلى خصومه. وخلال كل هذا الشجار، وبينما تشتعل نار الخصومة، نجد منهم صمتا غريبا، أو كلمات قليلة تلقى بين الحين والآخر بحذر، وتختار بحرص شديد، ولكنها خالية من أى شىء ويدل على وجود أى رغبة حقيقة فى وضع حد لهذا الانقسام الذى أوشك أن يزهق الروح.