د. كمال أبو المجد.. وداعـــــــًا
ناجح إبراهيم
آخر تحديث:
الجمعة 5 أبريل 2019 - 11:35 م
بتوقيت القاهرة
توفى منذ ساعات أستاذنا وأستاذ الأجيال «عبقرى القانون الدستورى» ورمز الوسطية العظيم وابن أعرق الجامعات الأمريكية «هارفارد» وتلميذ عبقرى الفقه أعظم المفتين فى تاريخ مصر الشيخ حسنين مخلوف، والذى ما ترك علما نافعا إلا وضرب فيه بسهم وافر، إنه العلامة العالمى د.«أحمد كمال أبو المجد» الذى أطلق عليه دوما «جامع الحضارتين» إذ استطاع بعبقريته أن يجمع بين أفضل ما فى الحضارة الإسلامية والعربية فضلا عن الحضارة الغربية وهو أعظم دعاة ومنظرى فكرة الوسطية الإسلامية والتى عاشها بنفسه وغذاها بمشاعره وأخلاقه الكريمة ونفث فيها من روحه النبيلة.
فقد تربى «رحمه الله» على مائدة العلم الشرعى والقانونى فى بيت أبيه القاضى وبيت خاله أعظم مفتى فى تاريخ مصر العلامة/حسنين مخلوف.
ورغم أن د/كمال أبو المجد برز فى علوم كثيرة إلا أن أبرز إسهاماته كانت فى نشر الوسطية ومحاربة التطرف ورغم أن المرض قد غيّب قلمه ولسانه عن ساحة المواجهة الفكرية مع التطرف فى الفترة الأخيرة قبل موته إلا أن كلماته وأطروحاته الرائعة والتى تتلمذ عليها آلاف العلماء والمفكرين ما زالت تنبض بالحياة وتشع بالنور فى ظلمات تكاد تكتنف أغلب العالم العربى الآن.
ولعلى بهذا المقال أوفيه شيئا من حقه وفضله على الإسلام ووسطيته من جهة وعلى مصر خاصة والعالم الإسلامى عامة، وأوفيه حق التتلمذ على يديه وإن لم أستطع ملازمته طويلا لكنى أستلهمت بعضا من روحه الجميلة وحنوه مع صلابته وقوته فهو الصعيدى الذى جمع الصلابة فى الحق والصدع به مع الرحمة بالخلق والعطف عليهم والمودة لهم.
تأمله «رحمه الله» وهو يقول «هناك مظاهر سبعة لانحراف الخطاب الدينى السائد الآن عن الإطار المرجعى الثابت للدين الإسلامى».
فها هو يهتف «المتشددون فى كل زمان يصدرون فى تشددهم عن تصور خاطئ لمهمتهم وحدودها.. فهم يتصورن أنفسهم وصاة على الدين وعلى الناس، وهم لذلك فى خوف دائم مقيم من أن التيسير على عباد الله قد يؤدى بهم إلى الخروج على حدود الله وتكاليف الشريعة».
وقد حذر مرارا من الوصاية على الناس «ينسى أكثر الدعاة أنهم مبلغون وليسوا أوصياء على أحد من الناس.. إذ تظل الطاعة والمعصية أمورًا منوطة باختيار الأفراد والمكلفين.. يسألون عنها بين يدى خالقهم الذى علمهم أنه «لاَ إِكْرَاهَ فِى الدِّينِ قَد تَّبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَىِّ».
وبين أن التشدد لا يغلق أبواب الشر ولكنه يفتحها فيقول «يتصور المتشددون أن تشددهم من شأنه أن يقفل أبواب الشر والعوج، وأن يسد الذرائع فى وجه الانفلات من تكاليف الشريعة، وينسون أن سد الذرائع طريق احتياطى من طرق التشريع والإفتاء وأنه كما يسد مداخل الشر، فإنه يفتح أبواب الخير، كما ينسون أن المرجع فى حل الأفعال والتصرفات وتحريمها إنما هو الخالق سبحانه، وأن الوصول فى التشديد إلى الاقتراب من تحريم الحلال لا يقل إثما عن الوصول إلى تحليل الحرام، يشهد له ويقرره قوله سبحانه «وَلاَ تَقُولُواْ لِمَا تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هَـذَا حَلاَلٌ وَهَـذَا حَرَامٌ».
ويرى أن التشديد بضاعة قليلى العلم فيقول «التشديد فى حقيقته هو الاجتهاد الأسهل وليس الاجتهاد الأفضل إذ الأمر كما قال الفقيه الكبير/ سفيان الثورى «ليس العلم فى التشديد فإنه يحسنه كل أحد، إنما العلم الرخصة من ثقة «والله تعالى يحب أن تؤتى رخصه كما تؤتى عزائمه، كما يقول النبى «صلى الله عليه وسلم».
ويحث الدعاة على التيسير: «يحتاج الدعاة والخطباء والمتحدثون والمفتون إلى أن يعرفوا معرفة لا شك فيها، ولا مكابرة معها أو جدال، أن شريعة الإسلام قد بنيت على التيسير ورفع المشقة ورفع الحرج ولم تبن أبدًا على التعسير والمشقة والحرج».
ويرى أن بداية انحراف الشباب المتدين هو مبدأ السمع والطاعة داخل الحركات الإسلامية فيقول: الطاعة المطلقة لأمير الجماعة، وقد لا يكون على علم بأحكام الشريعة ومقاصدها، أو دراية بأساليب العمل الجماعى والسياسى، أو تقوى تجعله يتحرج ويحتاط فى أمور الدماء والأموال والأعراض، إن هذه الطاعة المطلقة التى تستند إلى «التبعية» فى المنشط والمكره هى الباب الذى يندفع منه جموع الشباب إلى مصارعها وإلى إهلاك الحرث والنسل من حولها دون أن تتوقف لتراجع أو تتدبر أو تتساءل.
وأعظم ما قرأته له: «المسلم لا يحتاج إلى شهادة أحد أو وساطة أحد حتى يكون مسلما، وما عليه سوى أن يؤمن بالله ويصدق برسوله ويشهد بذلك لسانه».
ويحذر من عزلة الشباب المتدين عن مجتمعه فيقول: انحراف الشباب يبدأ بالعزلة وفى العزلة يلقنون كراهة الحياة والناس، ويقيمون فى أنفسهم حربا باردة مع مخالفيهم، وبعيدا عن نور المعرفة وإشراقات السماحة تصدر الاتهامات السهلة بالتكفير على مخالفيهم، وقد تتحول الحرب الباردة مع هؤلاء المخالفين إلى حروب ساخنة، تنطلق فيها فتنة مدمرة».
ويرى أن من أسباب التطرف رفض تجارب الآخرين الإنسانية» التجربة الإنسانية لا ترفض لمجرد أنها تمت فى أرض غير إسلامية أو تحت راية غير إسلامية، وأن هذا لا يكفى وحده لرميها رمية مسبقة قاطعة بأنها تجربة «جاهلية» فالحق هو الحق، والحكمة ضالة المؤمن.
ويرى أن «الإسلام لا يضع أصحابه فى صراع مع الحياة، والمسلم الحق لا يكره الناس والدنيا، ولا يقضى عمره فى معركة وهمية مع قواها ونواميسها».
وأن من أسباب التطرف عدم التمييز بين الشريعة والفقه فـ«الشريعة» هى الجزء الثابت من أحكام الإسلام والفقه هو تفسير الرجال لهذا الجزء الثابت المستمد من النصوص القطعية، وأن الأمة تحتاج إلى فرز التراث من ناحية وتجاوزه من ناحية أخرى: نفرزه لنعرف ما يعد منه إسلاما، وما يعد من عامة أحوال الناس وظروف الزمان والمكان، ونتجاوزه لأن من حق كل جيل ــ بل من واجبه ــ أن تكون له تجربته، وأن يثرى بها النصوص ويثريها بالنصوص غير مقلد وهو قادر على الاجتهاد.
ويدعو الحركات الإسلامية جميعا إلى مراجعة صادقة فيقول «أفلا يستحق الإسلام من هذه الجماعات والحركات والمؤسسات وقفة صدق – لله وللمسلمين ــ تطرح فيها هذه القضايا وأمثالها، بعيدا عن حمى تبادل الاتهام بالكفر والزيغ والضلال».
ويدعو إلى عفة اللسان فى الحوار عامة والدينى خاصة «الحوار حول الدين وقضاياه أجدر وأولى من كل حوار بالتزام عفة اللسان والقلم وصون الكرامة وحسن الظن».
ويرى أن «التطرف ينشأ من الظن بوحدة الحقيقة أو احتكارها «وحدة الحقيقة لا تنفى تعدد زواياها واختلاف العقل فى تفسيرها».
ويرى أن مشكلة شباب الحركات الإسلامية الأساسية تكمن فى: «أن بينهم وبين أكثر الناس فجوة، وبينهم وبين كل الحكومات جفوة، يبدأون كما يبدأ الدعاة فى كل عصر ومصر، يعظون ويجادلون، ثم لا تلبث صدور بعضهم أن تضيق بما حولهم ومن حولهم، فلا تلبث وجوههم أن تعبس وتكفهر، فإذا تمسكهم بما يؤمنون به يتحول بهم إلى عزلة، وإذا حوارهم مع غيرهم يستحيل إلى مشاحنة ومخاشنة ونفره، وإذا إنكارهم على مخالفيهم يجاوز القلب واللسان، ليصير حربا ساخنة وصداما طابعه العنف والشدة، واتهاما لا موار به فيه بالكفر والجاهلية والردة، ثم تأتى ولا بد لحظة صدام ومواجهة مع الحكومات القائمة، وتراق دماء، ويسقط صرعى فى لحظات غاضبة محمومة، ولا يرتفع مع ذلك للإسلام لواء».
ويرى أنه «لا أمل اليوم فى صحوة، ولا رجاء فى بعث، ولا جدوى من حديث عن تقدم أو تنمية إلا إذا تحركت العقول فى الرءوس».
ويرى فى كتابات سيد قطب أنها أضرت بالشباب المتدين «فقد كتب جانبا كبيرا مما كتبه بعد معاناة هائلة من الاضطهاد والقهر، ومن خلال العزلة التى أحاطه بها جو الاعتقال والسجن» ويهتف فى الختام «المجاملة فى قضايا الفكر خيانة لأمانة الكلمة».
وعن الخلط بين التاريخ والدين يقول «وتاريخ المسلمين منذ عهد الصحابة إلى يومنا هذا تاريخ أمة من البشر عامر بالخير وبالشر معا، فإلى جوار أبى بكر وعمر وعثمان وعلى، عاش أبو جهل وأبو لهب وأمية بن خلف».
وينكر على الذين يريدون تمييز الإسلام وأنفسهم والاستعلاء بها «والذين يسرفون فى الإلحاح على تمييز الإسلام والمسلمين تمييزا شاملا مطلقا، محجوجين بنصوص القرآن الكريم التى تصف أنبياء الله قبل نبينا «صلى الله عليه وسلم» وهم محجوبون كذلك بحقيقة وحدة الإنسانية ووحدة مصدر الأديان السماوية، وهؤلاء يمنحون فرصة نادرة للذين يصورون المسلمين كما لو كانوا غرباء على حضارة العصر كلها».
اللهم ارحم عالمنا الجليل وأستاذنا الجميل صاحب الأخلاق الفاضلة والبسمة الرائعة والكلمة الهادية وأدخله الجنة بسلام، وخالص العزاء لأسرته الكريمة «أسرة العلم والفضل».