قليل من الأدب.. كثير من الكذب
يحيى عبدالله
آخر تحديث:
الجمعة 5 أبريل 2024 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
من بين ما أقوم بتدريسه لطلابى بالجامعة، فى مقرر: «الأدب العبرى الحديث»، قصة قصيرة للأديب الإسرائيلى، شموئيل يوسف عجنون، الحائز على جائزة نوبل للأدب عام 1966م، مناصفة مع الشاعرة اليهودية، نيلى زكش، عنوانها: «من عدو إلى حبيب». ولمن لا يعرف عجنون (1880ـ 1970م) فإنه أهم روائى عبرى فى العصر الحديث. ولد فى إحدى البلدات بأوكرانيا الحالية، وهاجر إلى فلسطين، ضمن موجة الهجرة الصهيونية الثانية عام 1909م (بدأت أولى الهجرات الصهيونية عام 1882م، وامتدت حتى عام 1903م، وتلتها الهجرة الثانية من عام 1904 حتى عام 1914م. وكانت نواتها من الشباب العامل وحراس المستوطنات، ووضعت أسس حركة العمل الصهيونية والاستيطان العمالى على أرض فلسطين)، لكنه نزح إلى ألمانيا عام 1912م، ومكث بها اثنى عشر عاما، ثم عاد إلى فلسطين، مرة أخرى، عام 1924م وأقام فى مدينة القدس إلى أن توفى عام 1970م.
سافر عجنون فى رحلة إلى الولايات المتحدة الأمريكية فى 18 مايو 1967م، لكنه قطعها مع نشوب حرب 1967م وعاد إلى إسرائيل، وقال للصحفيين عن عودته: «هذا بيتى، هذه أرضى. أريد أن أكون مع شعبى فى هذا الوقت. كنت سأعود حتى لو عرفت أن كل مدافع العالم ستستقبلنى». وانضم، بعد الحرب بثلاثة أشهر، إلى الحركة الاستيطانية التوسعية، التى دعت إلى عدم الانسحاب من الأراضى التى احتلتها إسرائيل خلال الحرب، وإلى تكثيف الاستيطان بها، وهى الحركة المسماة: «حركة أرض إسرائيل الكاملة»، التى ضمت العديد من الأدباء البارزين مثل الشاعر، أورى تسفى جرينبرج، وموشيه شامير وغيرهما من كبار المفكرين الإسرائيليين.
تهتم كتابات عجنون بعالم اليهودية، بكل مكوناته، وتياراته، وروافده، وقد برع فى وصف هذا العالم، حد الإقناع التام. فإذا كتب عن «دراويش» اليهودية، أى عن طائفة «الحسيديين»، وعن تبسطهم فى العبادة، وخروجهم للتعبد، وإقامة الصلوات فى الأسواق بين الناس، وفى الخلاء فى غابات أوكرانيا، وبولندا، وروسيا، بعيدا عن جدران الكنس، وابتهاجهم بالعبادة من خلال الرقص وحفلات الطعام، وتقديسهم للرابى أو الصديق (لقب الحاخام فى الحسيدية)، لتمنيت أن تكون «درويشا» من هؤلاء «الدراويش»، ولو كتب عن قدسية يوم السبت، وعن الروحانية التى تسود بيت اليهودى، المؤمن، الملتزم، وعن الجو الاحتفالى خلال هذا اليوم، لتمنيت أن يكون العام، كله، سبتا، ولو كتب عن حرص اليهودى، المؤمن، على أداء الفروض الدينية على الوجه الأكمل، وعن تطهره فى المغسل الشرعى فى عز البرد، قبل توجهه لصلاة «الفجر» فى الكنيس، لخيل إليك أنه ملاك يمشى على الأرض وليس بشرا عاديا، أو إنسانا يتبنى فكرا فوقيا عنصريا، ولو وصف «أرض إسرائيل» لخلته يصف قطعة من الجنة وليس مكانا عاديا على وجه الأرض، ولو عبر عن كراهية الأوروبيين لليهود، وعن إذلالهم لهم، لمقت وكرهت كل أوروبى من فورك، وكأن اليهودى مبرأ من أسباب هذه الكراهية.
هو، ببساطة، كاتب لا يشق له غبار، كما يقال. كاتب آسر، وممتع، حتى وإن لم تتفق مع أفكاره. استوعب عجنون التراث الدينى اليهودى، وهو ما انعكس فى أساليب الكتابة لديه، التى تضم قطوفا، وتضمينات، وإحالات، وأشكال التناص كافة من لغة التوراة، والتلمود، والتفاسير الدينية، ولغة الحاخامات، وقصص وحكايات «الدراويش» وهلم جرا.
• • •
سخر عجنون موهبته لخدمة الأفكار الصهيونية، وتماهى مع مزاعمها تماهيا مطلقا، وفعل ذلك بحرفية عالية، ألبست الأكاذيب ثوب الحقائق، وزينت البهتان، وشوهت الواقع، وأعلت من قيمة الأساطير، ولوحت بسيف القوة فى سبيل تحقيق المآرب والأهداف، وهو ما ينعكس، بوضوح، فى القصة، المشار إليها، أعلاه: «من عدو إلى حبيب». نشرت القصة، لأول مرة، فى 30 مايو 1941م بجريدة «هاآرتس»، وهى تسرد مراحل التدرج العملى الذى اتبعه المستوطنون الصهاينة، قبل قيام الدولة، من أجل ترسيخ وجودهم فى المكان، بدءا من التسلل البطىء وسياسة الخطوة خطوة، وصولا إلى امتلاك أسباب القوة على الأرض، وفرض الأمر الواقع.
هناك شخصيتان فقط بالقصة، كعادة القصة القصيرة فى الاقتصاد فى الشخصيات. الأولى، شخصية إنسان من لحم ودم، هو الراوى، ممثل ورمز الاستيطان الصهيونى، والثانية، شخصية غير آدمية، صورة من صور المادة، شخصية ريح، تمثل الوجود الفلسطينى على أرض فلسطين. يحيلك رسم الشخصيات إلى فرية ثلاثية الأبعاد، جرى فيها أنسنة الراوى الصهيونى، فى مقابل نزع الصفة الإنسانية عن الوجود البشرى الفلسطينى، وجعله مجرد صورة من صور المادة، بل إنها صورة خبيثة، وشريرة، وهدامة، تعصف وتقتلع، وتعيث فسادا حيثما هبت. وحين خلع القاص عليها صفة إنسانية، فإنه فعل ذلك لضرورة إجراء حوار معها فقط. ومن المثير أن هذه الفرية الصهيونية، ما يزال يتردد صداها حتى يومنا هذا، حين يصف كبار الساسة الإسرائيليين وجمهرة الإعلاميين الفلسطينيين، خلال حرب «طوفان الأقصى»، بأنهم «حيوانات بشرية»، أو «وحوش». فإذا انتقلنا من الشخصيات إلى مفتتح القصة، فإن فرية صهيونية مزدوجة تصدمك، ببجاحتها، من السطور الأولى. تتعلق الأولى بالسعى الصهيونى إلى طمس أسماء القرى والأماكن الفلسطينية وعبْرنتها، كما فى حى «الطالبية» الفلسطينى بالقدس، الذى حوله الراوى إلى «تلبيوت»؛ وتتعلق الثانية بادعاء الراوى، المستوطن الصهيونى، المقبل من شرق أوروبا، الحق فى الأرض مثله مثل الفلسطينى، المتجذر فيها منذ فجر التاريخ. يقول الراوى فى المفتتح: «قبل أن تبنى تلبيوت (الطالبية ـ قبل أن يستولى عليها الصهاينة) كان ملك الريح (الوجود الفلسطينى) يحكم كل الأرض هناك وكان كل وزرائه وعبيده رياحا قوية وعاتية فى الجبل وفى السهل وفى التل وفى الوادى يفعلون كل ما يحلو لهم، وكأن الأرض أعطيت لهم وحدهم».
ثمة فرية صهيونية بالنص، تتعلق بوصف مقاومة الفلسطينيين للتمدد الاستيطانى بأنه عنف، وعدوانية، وفعل همجى، وهى فرية تقلب الحقائق، وتصور المستوطن، الصهيونى، المعتدى (الراوى فى القصة) ضحية، وتصور الفلسطينى، المقاوم، المعتدى عليه (الريح فى القصة) مجرما وعدوانيا. إنها الفرية، ذاتها، التى تصم بها إسرائيل، المحتلة، المعتدية، المقاومة الفلسطينية الآن.
يصف الراوى رد فعل «الريح» تجاه محاولته التسلل إلى المكان، قائلا: «قابلتنى ريح. قالت لى، ماذا تفعل هنا؟ قلت لها أشم الهواء. خبطتنى على رأسى وطوحت قبعتى. بعثرت ملابسى وقلبتها على رأسى وجعلتنى أضحوكة»، وحين قرر نصب خيمة اتقاء للريح: «صفعتنى على وجهى وصفرت فى أذنى. اقتلعت أوتاد خيمتى، ومزقت حبالها، وقلبتها وبعثرت رقاعها»، وحين قرر صنع كوخ: «لم يكد النهار ينقضى حتى نقرت فوق سطح كوخى وخلخلت جدرانه، وذات ليلة اقتلعت الكوخ برمته. اقتلعت الريح كوخى وتركتنى بلا مأوى»، وحين قرر بناء بيت متواضع: «مدت (الريح) يدها وفحصت الباب. فانكسر الباب وسقط. مدت يدها وفحصت النوافذ. فتهشمت وسقطت. وأخيرا ارتقت وصعدت إلى السطح. ما إنْ صعدتْ حتى تهاوى السطح. سخرت منى الريح وقالت، أين بيتك الذى بنيت؟».
• • •
الحدث بالقصة متصاعد، ويفضى إلى نهاية هى، فى الواقع، أكذوبة كبرى، يجرى الترويج لها ليل نهار، مفادها، أن العرب، بمن فى ذلك الفلسطينيون، لا يفهمون سوى لغة القوة، وأن القوة، وحدها، هى السبيل إلى فرض السلام على العرب. يقرر الراوى، فى النهاية، بناء بيت ذى أساسات متينة، وراسخة، لم تستطع الريح المساس به، ما أوهن عزيمتها وفت فى عضدها: «من هنا فصاعدا (بعد امتلاك أسباب القوة وبناء بيت ذى أساسات راسخة) فترت عزيمة الريح وتصرفت بأدب. وبما أنها تتعامل معى بأدب فإننى أيضا أتعامل معها بأدب. فى الحقيقة نحن جاران جيدان، وأنا أحبها حبا خالصا، وربما تحبنى هى أيضا».
ثمة فرية صهيونية أخرى بالنص، هى، فى الحقيقة، انتحال لمقولات استشراقية استعمارية، روجت لما يسمى بـ «الرسالة الحضارية»، التى يحملها المستعمر لأهل الشرق، من تعمير للأرض الصحراوية، ونشر للمعارف والعلوم وهلم جرا. يزعم الراوى (المستعمر) فى النص أن الأرض الفلسطينية كانت صحراء جرداء، خالية من مظاهر الحياة، وأنه هو الذى بث فيها الحياة بما بذله من جهد فى استصلاحها، وزراعتها: «وقفت أمام بيتى فرأيت أن الأرض كلها صحراء جرداء، لا شجرة ولا حديقة، وإنما تراب وحجارة. قلت لنفسى، فلأغرس حديقة. أخذت فأسا وفلحت الأرض. ما إن حرثتها أحضرت شتلات. هطلت أمطار وروت الشتلات، وأنبت الندى زهرها، ونمتها الشمس. لم تمض أيام عديدة حتى صارت الشتلات التى غرست أشجارا ذات أفنان. صنعت لنفسى مقعدا وجلست فى فيئها».
هذا هو فكر كبير القوم فى عالم الأدب، أديب نوبل، نصير «أرض إسرائيل الكاملة»، غير المنقوصة، من نهر مصر الكبير حتى نهر الفرات، كما يقول سفر «التكوين»، فما بالك بالأشياع والمريدين، ما بالك بالأجرام التى تدور فى فلكه حتى يومنا هذا؟!! ألا ما أحوجنا إلى قراءة نقدية، تفكيكية لهذا الأدب.