لماذا لا تتوسط الصين في غزة وتغيب عن أمن البحر الأحمر؟
عمرو حمزاوي
آخر تحديث:
الجمعة 5 أبريل 2024 - 7:25 م
بتوقيت القاهرة
فى العاصمة الأمريكية، تتردد أصداء تساؤلات كثيرة عن الصين ودورها فى الشرق الأوسط. فقد كانت وساطة بكين بين الرياض وطهران سببًا فى تخوف بعض أوساط السياسة فى واشنطن من تنامى النفوذ الصينى فى المنطقة وتهديده للمصالح الأمريكية، وسببًا أيضًا فى مطالبة البعض الآخر بتوريط العملاق الآسيوى فى قضايا أمن واستقرار العرب وجيرانهم فى إيران وتركيا وإسرائيل لكيلا تتحمل الولايات المتحدة الكلفة بمفردها. وحين نشبت الحرب فى غزة، ولم يسمع صوت بكين فى أسابيعها الأولى، ساد التصور بكون بكين تنتظر ولا تريد المجازفة. وعندما تحولت الحرب إلى وضع دائم فى غزة وتصاعدت الكلفة الإنسانية والمادية، صار السؤال عن غياب الصين وضعف مردودها الدبلوماسى وابتعادها عن التوسط فى غزة أو الحديث مع الحليف الإيرانى لإيقاف هجمات الحوثيين أو التدخل بين طهران وتل أبيب لمنع التصعيد، صار هذا التساؤل ملحا.
• • •
واقع الأمر هو أن الصين تدير سياستها الخارجية وفقًا لمجموعة من الأولويات الصريحة والمبادئ المعلنة التى تجعل من توقع المبادرات والخطوات الدبلوماسية القادمة لبكين أمرًا ممكنًا.
بداية، توظف بكين سياستها الخارجية لخدمة أهدافها الداخلية المتمثلة فى النمو الاقتصادى والاستقرار الاجتماعى والسياسى والتقدم العلمى والتكنولوجى وحماية الأمن القومى. الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هى تحفيز النمو الاقتصادى فى الداخل من خلال زيادة التبادل التجارى مع جميع دول العالم وزيادة الاستثمارات الموجهة إلى البنى التحتية ووسائل النقل والقطاعات الصناعية وتكنولوجيا الاتصالات فى دول الجنوب.
الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هى ضمان الاستقرار الاجتماعى والسياسى وحماية الأمن القومى بمنع تدخلات القوى الغربية فى الشئون الداخلية والدفاع عن مصالح بكين فى جوارها الجغرافى المباشر فى المحيطين الهادى والهندى.
الأولوية الأسمى للسياسة الخارجية الصينية هى تطوير قوتها الصلبة وقوتها الناعمة بحيث ينظر العالم للعملاق الآسيوى فى المستقبل كمصنعه الأكبر ومطوره العلمى والتكنولوجى الأهم وكمصدر لثقافة ملهمة يفهمها ويقدرها الناس فى الجوار المباشر وتدريجيًا فى جميع نواحى المعمورة.
تأسيسًا على ذلك، تعطى السياسة الخارجية الصينية أهمية كبرى لتوظيف مواردها ومصادر قوتها الصلبة والناعمة فى جوارها المباشر، حيث تايوان والدول الآسيوية القريبة منها، وحيث العلاقات التاريخية المعقدة مع اليابان وكوريا وفيتنام، وحيث التنافس الجيو ــ استراتيجى والعسكرى مع الولايات المتحدة. كذلك، تهتم الصين بمنطقة الخليج بشقيه العربى والإيرانى، حيث تستورد ما يقرب من 60 بالمائة من إمدادات الطاقة وتحتاج إلى الاطمئنان لحضور ترتيبات أمنية تحول دون تهديد شبكات النفط والغاز الطبيعى ودون تهديد تجارتهما. كما أن اهتمام السياسة الخارجية الصينية بعموم الشرق الأوسط وبالقارة الإفريقية يعود إلى أولوية التبادل التجارى والاستثمارات والمساعدات التنموية بين الصين وبين المنطقتين اللتين فيهما أسواق واسعة ومواد خام هائلة ونقص بالغ فى البنى التحتية الأساسية، وشبكات المواصلات والنقل والاتصالات، ولا تحصلان على الكثير من الاستثمارات الغربية.
• • •
لا تنظر الصين إلى السياسة الخارجية كمجال لفرض انحيازاتها الأيديولوجية على الآخرين إن بتصنيفات الصديق والعدو، أو بالربط بين التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات التنموية وبين الاستجابة إلى شروط سياسية أو اقتصادية بعينها، أو برهن العلاقات الجيدة مع دول إقليم معين بحضور علاقات سلام وتعاون بين تلك الدول وبعضها البعض. وتقدم منطقة الخليج على وجه خاص ومنطقة الشرق الأوسط فى العموم أمثلة واضحة على غياب المشروطية عن السياسات الصينية. فالصين صارت الشريك التجارى الأول لجميع دول المنطقتين، وتستورد احتياجاتها من الطاقة من إيران والسعودية اللتين دخلتا فى حرب بالوكالة فى اليمن إلى أن توسطت بينهما دبلوماسية بكين، ولها اتفاقات تعاون استراتيجى وشراكات واسعة مع إيران والسعودية وإسرائيل وتركيا دون أن تلتفت إلى طبيعة العلاقات بين تلك الدول وبعضها البعض. سياسة الصين الخارجية هى أقرب ما تكون إلى ما يشار إليه أحيانا فى أدبيات العلاقات الدولية بسياسة «الخيمة الكبيرة»، والتى تعنى بناء التحالفات وزيادة التجارة والاستثمار وتقديم المساعدات مع دول الجوار والدول فى المناطق المهمة لمصالح الصين دون نظر لانحيازات أيديولوجية أو لاعتبارات سياسية.
لا تنظر الصين للسياسة الخارجية أيضًا كمجال لاستخدام القوة العسكرية لتحقيق أهداف بعينها. تعارض دبلوماسية بكين الحروب وتدعو إلى الحلول السلمية للصراعات المسلحة وتعمل على الحفاظ على الأمن الإقليمى والعالمى، وهى لذلك توسطت بين إيران والسعودية وطرحت مبادرة سلام لإنهاء الحرب الروسية ــ الأوكرانية ويجول وزير خارجيتها هذه الأيام على العواصم الأوروبية الكبرى لحشد التأييد للمبادرة الصينية. أما فى جوارها المباشر، فلم تلوح الصين أبدًا بتوظيف القوة العسكرية إلا حين تصاعدت وتيرة التهديدات الأمريكية بحماية استقلال تايوان بالسلاح.
وفيما خص الشرق الأوسط، فإن الصين لم تأتِ إلى منطقتنا كقوة غزو واحتلال على عكس ما فعلت القوى الاستعمارية الأوروبية فى الماضى البعيد وما فعلته الولايات المتحدة الأمريكية فى الماضى القريب بغزوها الدامى للعراق واحتلالها المدمر له. كما أن الصين لم تدعم الاحتلال الإسرائيلى للأراضى العربية فى 1967، أو تصمت عن المطالبة بإنهاء نتائجه غير الشرعية، أو تحمِ كالولايات المتحدة دولة الاحتلال إسرائيل بدعم اقتصادى وعسكرى هائل وبدعم دولى مستمر على الرغم من نظام الأبارتايد الذى يعانى منه الشعب الفلسطينى تهجيرًا واستيطانًا وحصارًا. على العكس من ذلك، تلتزم الدبلوماسية الصينية بالدعوة إلى تمكين الشعب الفلسطينى من ممارسة حقه فى تقرير المصير وفى بناء الدولة المستقلة وفى رفع اليد المجرمة للمستوطنين عنه وعن أراضيه فى القدس الشرقية والضفة الغربية وفى رفع الحصار عن أهل غزة.
• • •
فى كل هذه السياقات، وبمبادراتها السلمية وخطوات الدبلوماسية الهادئة، تكتسب بكين يومًا بعد اليوم المزيد من تأييد عواصم الجنوب العالمى التى صارت ترحب بالتجارة والاستثمار والمساعدات الاقتصادية الصينية وصارت تعمل أيضًا على الالتحاق بالمنظمات والتجمعات الاقتصادية الدولية التى تقودها كمجموعة البريكس، ومنظمة شنغهاى للتعاون، وتسعى إلى تشجيعها على التوسط لحل الصراعات وحفظ السلم والأمن إقليميًا وعالميًا.
تستطيع النخب السياسية فى واشنطن والعواصم الأوروبية أن تقول ما تشاء عن بكين ودبلوماسيتها وأن تتهم السياسة الصينية باستغلال فقر دول الجنوب العالمى لتوسيع النفوذ تجارة واستثمارا وبنى تحتية وشبكات نقل ومواصلات واتصالات مخترقة. غير أن الثابت، وفقًا للعديد من استطلاعات الرأى العام، أن نخب وشعوب الجنوب العالمى تثق فى الصين وترحب بها وبدورها، بينما لا تشعر بأدنى درجات الثقة فى سياسات وممارسات وأفعال الجانب الغربى الذى لم يكف يوما عن الاستعلاء والتدخل فى شئون الغير بادعاءات أيديولوجية وسياسية ساذجة وبالغة التناقض. فاحتلال إسرائيل لأراضى الشعب الفلسطينى مقبول ولا ترفع فى وجه تل أبيب رايات الشرعية الدولية، واحتلال روسيا أراضى أوكرانيا مرفوض باسم القانون الدولى الذى يُستدعى الآن بعد أن أهانته الولايات المتحدة والحليف الإسرائيلى مرارًا وتكرارًا.