صراعًا ضد الديكتاتورية أم حول نكهتها
أحمد عبدربه
آخر تحديث:
الأحد 5 مايو 2013 - 8:00 ص
بتوقيت القاهرة
يكون العلم ثقيل الظل فى بعض الأحيان فقوانينه لا تعرف المشاعر ولا المجاملات ونتائجه لا تهتم بالأحلام والمثاليات، فقط النتائج المجردة بقواعد منضبطة هى التى تتكلم وعلينا فقط أن نصدقها ونتعامل معها على أرض الواقع مهما كانت قسوتها! أما علم السياسة، فقد يكون الأثقل ظلا على الإطلاق فى العلوم الاجتماعية، فرغم جاذبيته وهالته إلا أن نتائجه المجردة عن الهوى تكون عادة الأكثر قسوة وخشونة. ولأنه لا توجد معامل وحقول تجارب يمكن اجرائها على الظواهر السياسية، فيبقى التاريخ هو المختبر الأهم للسياسة وظواهرها وأحداثها.
عفوا لمقدمتى الجامدة، فما أدعوك لمراجعته فى تاريخ الثورات السياسية ونتائجها قد يكون صادما بعض الشىء، كما قد يأتى على غير هوى كثيرين ممن طال حلمهم بالثورة المصرية ونتائجها ومدنيتها وديمقراطيتها، ولكنى أؤمن أن صدمة أجلة لتصحيح المسار، أفضل من أخرى لاحقة بعد فوات الأوان! دعنى أقولها لك من الآن قبل أن يقولها الواقع لاحقا، تنتهى الثورات (عادة) بنظم ديكتاتورية جديدة تحل محل القديمة ولا تختلف معها فى الدرجة ولا فى المحتوى فقط فى النكهة والتوجه! صحيح أن هناك ثورات ديموقراطية ناجحة ولكنه الاستثناء الذى يؤكد القاعدة لا العكس.
فقد تنهى ثورة نظاما عسكريا سلطويا لتأتى بآخر مدنية ديكتاتورية، وقد ينهار نظام ديكتاتورى رأسمالى بفعل ثورة تأتى بأخرى شيوعية، وقد تنهى أخرى نظاما شموليا قوميا علمانيا لتأتى بأخرى إسلامية، لا يوجد فروق إذا فالديكتاتورية هى نفسها فقط تتلون بالنكهات والمرجعيات والتوجهات ولكن تبقى آلاتها قائمة دوما! وقد قالها سيمون بوليفار محرر أمريكا الجنوبية ذات مرة «من يساند ثورة، كمن يفجر المحيط!»
فالثورة الفرنسية التى أنهت ديكتاتورية ملوك فرنسا أتت بالديكتاتور نابوليون فى النهاية، أما نظيرتها فى روسيا فقد أنهت حقبة ديكتاتورية القياصرة الإقطاعية لتأتى بالديكتاتورية الشيوعية، أما فى الصين فقد قضت الثورة (التى عرفت أيضا بحرب التحرير) على الحزب القومى الصينى (المتطرف) لتأتى بالحزب الشيوعى الصينى بقيادة ماو تسى تونج والذى لم يكن أقل تطرفا من سابقه، وفى كوبا لم يختلف الأمر كثيرا فالثائر فيدل كاسترو أطاح بحكم الباتيستا فى ثورة انتهت بحكمه الديكتاتورى ذى الصبغة الشيوعية! وفى الموجة الثالثة من الثورات فى أوروبا الشرقية، فبينما حققت بولندا والمجر وبلغاريا والتشيك نجاحات متباينة بين محدودة ومتوسطة فى التحول الديمقراطى فإن دولة مثل رومانيا والتى أطاحت ثورتها بديكتاتورية تشاوتشيسكو أتت بعدها بسنوات لاحقة بكوادر الصف الثانى من مساعدى تشاوتشيسكو نفسه فى الحكم وبحوالى ٧٠٪ من أصوات الشعب!
●●●
لماذا تأتى نتائج الثورات إذا على هذا النحو المحبط ولا يكون لدينا سوى استثناءات محدودة مثل حالة كوريا الجنوبية وبعض الدول فى أوروبا الشرقية؟ لا توجد اجابة سهلة لهذا السؤال ولكن خليطا من العوامل تؤدى عادة إلى هذه النتائج المحبطة، منها قلة خبرة الثوار أو حتى انتهازية بعض فصائلهم فى بعض الأحيان، ومنها عدم قدرة الثوار على تقديم حلول قليلة التكلفة لمشاكل الاقتصاد والأمن، ومنها (إن لم يكن أهمها بحسب بعض الباحثين) دور الجيش فى مرحلة ما بعد الثورة ومدى انحيازه لها أو ضدها وهو دور يتحدد بكثير من العوامل أهمها حسابات الجيش ذاته للحفاظ على وحدته أينما ومتى تحققت هذه الوحدة!
ما يقوله تاريخ الثورات ونتائج معظمها المحبط لا يختلف كثيرا عما حدث فى مصر، فبعد ثورة شعبية، سريعا ما تعقد المشهد وتعددت الفرق والتبس على القوى السياسية دور المؤسسة العسكرية وانتهت المرحلة الانتقالية بلا أدنى درجات التوافق الوطنى «المزعوم»حتى وصلنا الآن إلى نقطة فاصلة لم نعد فيها نصارع الديكتاتورية بقدر أننا نختلف حول نكهة هذه الديكتاتورية وتوجهها!
لا دليل على ذلك أكثر من موقف معظم القوى السياسية الفاعلة من دور الجيش، ففى الوقت الذى بدا فيه الإسلاميون على تفاهم وثيق مع الجيش وعكست تصريحاتهم ثقة كبيرة فى أن انقلابا على ديمقراطية الصناديق كذلك الذى وقع فى الجزائر فى تسعينيات القرن الماضى لن يتكرر فى مصر، فإن عدداً من رموز المعارضة بينما أخذ يشجب صفقة الجيش والإسلاميين على حساب الثورة، فإنه فى الوقت ذاته نادى بالعسكر صراحة لحماية الشعب المصرى من الرئيس المنتخب! كما أنه وبينما اتهم كثيرون مرسى بالديكتاتورية، فإنهم لم يتوانوا عن رفع صور واستعارة عبارات عبد الناصر منتحبين على العصر الذى مضى! أما آخرون فإنهم قرروا الثورة على سلطوية النظام الإخوانى باستدعاء مبارك ونظامه ورموزه حتى أن عددا منهم انضم رسميا لفريق «أسف ياريس» وجاهر بعضهم برهانه على عودة جمال مبارك لحكم مصر! أما آخرون وبينما اتهموا الإخوان بالفاشية، فإنهم لم وربما لن يتوانوا على تشويه كل من يخالف رأيهم وتحيازاتهم وقراراتهم! وأخيرا وليس آخرا، فإنه بينما يتهم البعض الإخوان خاصة والإسلاميين عامة بالنصب والاحتيال على الشعب بادعاء بطولات ومشاريع وبرامج لم ولن يحققوها، فإنهم لم يتوانوا عن نفس الكذب والنصب والاحتيال لمعارضة الإخوان حتى أن أحدهم ممن تحول من معارض شرس فى عصر مبارك إلى نجم فضائى فى عهد مرسى حينما دعيت معه لتحليل حوار الرئيس الأخير مع قناة الجزيرة فإنه جاء دون أن يشاهد لقطة واحدة من الحوار وتظاهر على الهواء ليس فقط بمشاهدة الحوار بل وبتحليله ثم أخذ يكيل للرئيس ولحزبه ولجماعته بسباب وأحكام لا تقل فاشية ولا سلطوية عن تلك التى يتهمهم بها!
ماذا يعنى ذلك اذا؟ يعنى ببساطة أن مصر تسير على طريق المآل الديكتاتورى لمعظم الثورات والهبات الشعبية فى التاريخ، فالصراع فيها الأن ليس ضد الديكتاتورية ولا الفاشية ولكن حول نكهتها فقط! فالإسلاميون الذين ينادون مرسى بممارسة الديكتاتورية والفاشية تحت شعار «اغضب يا ريس» لا يختلفون كثيرا عن أولئك الذين ينادون بإسقاط الديكتاتور الإسلامى مرسى ليحل محله ديكتاتور عسكرى أو مدنى جديد تحت شعار «الانتخابات الرئاسية المبكرة» بالالتفاف على الإرادة الشعبية! ومدعو الليبرالية الذين ينادون بعودة العسكر أو بعودة جمال مبارك أو حتى مبارك نفسه لا يختلفون كثيرا اذا عن الإسلاميين الذين يطالبون مرسى بالغضب واتخاذ ما شاء من إجراءات استثنائية بدعوى حماية المشروع الإسلامى الذى لا نعرف بعد محتواه ولا ماهيته!
●●●
عليك اذا أن تحدد وجهتك، لماذا تعترض على مرسى؟...(١) لأنه ديكتاتور؟ أم (٢) لأنه ديكتاتور فاشل؟ أم (٣) لأنه ديكتاتور ملتحٍ؟ إن كنت من الفريق الأول فذلك دليل على صدق معارضتك وعليك اذا التماس السبيل لإظهار أخطاء الرئيس والحزب الحاكم دون مبالغة أو افتراء ثم لاحقا عليك أن تقنع الناس بهذا حتى تتحول الإرادة الشعبية من تأييد الرئيس إلى تأييد بديله أو بدائله! أما اذا كنت من الفريق الثانى الذى يعترض على الرئيس لأنه ديكتاتور فاشل، فأنت إذا لست ضد الديكتاتورية ولكنك ضد فشلها، ببساطة أنت سلطوى بامتياز وتبحث عن النجاح والتوفيق فى ممارسة الديكتاتورية والفاشية، أما إن كنت من الفريق الثالث (ضد الديكتاتور الملتحى) فأنت إذا لست ديمقراطيا ولكنك مصاب بالفوبيا من الإسلاميين وليس لديك مانع فى ممارسة الديكتاتورية بشرط أن تحلق لحيتها!
مدرس النظم السياسية المقارنة بجامعة القاهرة