لا تقللوا من شأن ترامب
ماجدة شاهين
آخر تحديث:
الخميس 5 مايو 2016 - 10:00 م
بتوقيت القاهرة
لا تخلو الانتخابات الأمريكية من التناقضات التى تجعل أى متابع لها، حتى من الأمريكيين، فى حيرة وتخبط أمام نتائجها المحتملة. فلم تر الولايات المتحدة صراعا على الانتخابات التمهيدية وهجوما مباشرا على مؤسستى الحزبين وتآمر البارونات والقيادات الحزبية ضد مرشحيهم على النحو الذى تشهده هذه الانتخابات. وللمرة الأولى تشهد الانتخابات نجاحا، بل واكتساح مرشحين من خارج المؤسسة الحزبية يحظون بتأييد الشعب الأمريكى، بما أوقع كلا من مؤسستى الحزب الجمهورى والديمقراطى فى ورطة تُحتم عليهما إعادة حساباتهما. وعلى الرغم من مُضى عام على الانتخابات التمهيدية، فإن الأمور لم تُحسَم بشكل قاطع بالنسبة للحزبين بعد. فما زالت المنافسة قائمة على صعيد الحزب الجمهورى بين البليونير ترامب وكل من تيد كروز السيناتور من تكساس وكاسيك حاكم ولاية أوهايو، رغم اجتياح دونالد ترامب الانتخابات التمهيدية فى الآونة الأخيرة فى ولايات عديدة بدءا من نيويورك ومرورا ببنسلفانيا وميريلاند وغيرها. كما أنه على الرغم من تأمين هيلارى كلينتون ترشيح حزبها، فإن منافسها بيرنى ساندرز، الاشتراكى الديمقراطى، يرفض الانسحاب ويستمر فى توجيه ضرباته إلى دائرة الفساد داخل الحزب وجمع الأموال الطائلة والتبرعات لصالح حملة هيلارى.
ويرى الكثيرون أن قطار ترامب انطلق ومن الصعب إيقافه الآن، بل إن هؤلاء مقتنعون بأن ترامب لن يجد صعوبة فى الوصول إلى عدد المندوبين المطلوب، وهو الرقم السحرى ألف ومائتا وسبعة وثلاثون مندوبا، وذلك قبل الوصول إلى مؤتمر الحزب المزمع عقده فى يوليو القادم فى كليفلاند بولاية أوهايو. بيد أن الأمل ما زال يحدو مؤسسة الحزب الجمهورى إلى استبعاد ترامب فى المؤتمر وتقويض نجاحاته. وأننا هنا أمام عدد من السيناريوهات، فيما إذا لم يحقق ترامب الرقم السحرى.
ويتمسك كل من منافسى ترامب – تيد كروز وكاسيك ــ بالاستمرار على الرغم من عِلمهما اليقين بأنهما لن يستطيعا اللحاق به؛ حيث تتسع الفجوة بينهم بملايين الأصوات ومئات المندوبين، ويصل عدد المندوبين الموالين لترامب الآن إلى أكثر من تسعمائة وستين مندوبا، فى حين أن عدد مندوبى كروز خمسمائة وخمسين وكاسيك لم يتعد المائتى مندوب. ويأمل كل من كروز وكاسيك أن يحظيا بفرصتهما من خلال ما يُعرَف بالاقتراع المتعدد بعد التصويت الأول فى المؤتمر، والذى يدخل ضمن شبكة التعقيدات المحاكة حول الانتخابات الأمريكية والتى تعرضنا للكثير منها فى مقالات سابقة.
***
فما الذى سيحدث إذا لم يحصل ترامب على أغلبية المندوبين قُبيل الذهاب إلى المؤتمر؟ فى كلمتين: الفوضى العارمة؛ ففى حالة ما ينقص ترامب ولو مندوبا واحدا من مجموع عدد المندوبين المطلوب وهو ألف ومائتا وسبعة وثلاثون مندوبا أى نصف عدد المندوبين الذين يشاركون فى المؤتمر، فإن القاعدة تنص على تحرير المندوبين من تعهداتهم، بعد الاقتراع الأول، والتصويت بمطلق الحرية لأى من المرشحين، فإن التصويت يصبح مفتوحا للمضاربة والمنافسة حتى يحقق أحد المرشحين العدد المطلوب، حتى ولو استدعى الأمر رفض المنافسين الثلاثة واختيار المندوبين لمرشح جديد للحزب لم يخض الانتخابات التمهيدية. وبذلك يواجه ترامب تحدى حزبه له والحيلولة دون نجاحه، وما زالت المكائد تدبر لترامب، ويتآمر منافسوه مع كبار رجال الحزب ضده.
والمثير للجدل فى مثل هذا النظام، وهو ما ينتقده ترامب بشدة، هو إهدار أصوات الناخب الأمريكى بالملايين، وقيام مجموعة المندوبين المشاركة فى المؤتمر وعددها ألفان وأربعمائة واثنان وسبعون مندوبا بتحديد مرشح الحزب، ضاربة عرض الحائط بأصوات الناخبين ومنافسة طاحنة بين المرشحين دامت لأكثر من عام وأموال طائلة تم إنفاقها هباء. وتستمر جولات الاقتراع المتعدد إلى ما لا نهاية وإلى حين يحظى أحد المرشحين بالأغلبية، فيبدو أنه فى العشرينيات من القرن الماضى اضطر الحزب الديمقراطى إلى التصويت لأكثر من مائة جولة حتى نال أحد مرشحيه الأغلبية المطلوبة. ومما لا شك فيه أن الاقتراع المتعدد لأى من الحزبين يُضعِف مكانة مرشح الحزب ويجعل الأمر أكثر صعوبة للفوز فى الانتخابات العامة. وعلى كل، فإن هذه حالات معدودة عبر التاريخ الانتخابى للولايات المتحدة ولا تتعدى أصابع اليد الواحدة. وفى حالتين لا ثالث لهما خاض الرئيسان وودرو ويلسون ــ صاحب مبادرة عصبة الأمم بعد الحرب العالمية الأولى ــ ووارن هاردنج أثناء الكساد الكبير الاقتراع المتعدد ونجحا بعده فى الانتخابات العامة.
ونتساءل لماذا هذه الاعتراضات ضد ترامب من قِبَل حزبه والمحاولات المستميتة ضد إنجاحه كمرشح للحزب، رغم أن جميع المؤشرات تُرَجِح أن ترامب هو الوحيد القادر على النيل من هيلارى كلينتون وتحقيق الفوز للحزب الجمهورى فى الانتخابات العامة بعد أن ظل خارج البيت الأبيض لثمانى سنوات. غير أن الأمر ليس بغريب؛ حيث إن ترامب – وهو من خارج المؤسسة – لا يُفَوَت فرصة إلا وقام بتوجيه ضرباته ضد الحزب واتهامه بالفساد والعمل ضد مصالح الشعب الأمريكى. كما يتهم ترامب مؤسسة الحزب بأنها قامت بتأسيس قواعدها الانتخابية على أسس ملتوية ومغلوطة لكى يتسنى لها التحكم فى الانتخابات والدفع بمن يُدين لها بالولاء ويتعهد بالامتثال لسياساتها. وهذا هو التناقض غير المسبوق الذى يعيشه الحزب.
ويقع الحزب الجمهورى اليوم بين المطرقة والسندان؛ فإذا ما استمر فى محاربته لأقوى مرشحيه، فإن هذا التناقض سينقلب على الحزب بما يُفَوَت عليه فرصة الانتخابات العامة. وإذا ما قررت المؤسسة على مضض التماشى مع ترامب، فإن هذا التحول سيكون بمثابة القشة التى قصمت ظهر البعير بما سيحتم عليه من إدخال تعديلات جذرية على برنامج الحزب تتفق وسياسات ترامب، غير أنها قد تعمل على إضعاف قاعدته وتَخلِى المحافظين عنه. فلا شك أن ظاهرة ترامب – رغم ما يحققه من نجاح – ليست فى مصلحة الحزب الجمهورى.
ولا يمكن أن يُلام ترامب على الوضع الذى آل له الحزب الجمهورى، وبكل تأكيد لا يمكن أن يُلام الناخب الأمريكى على هذا الوضع الذى أصبح من الجَلى أنه يرفض المؤسسة ومن يمثلها بكل قوة. وليس من المستبعد إن لم يفز ترامب بترشيح الحزب له أن ينفصل بناخبيه الذين وصلوا إلى الملايين، وهو ما سيستتبعه –لا مفر– انهيار الحزب الجمهورى.
***
أما على صعيد الحزب الديمقراطى؛ فعلى الرغم من أنه يبدو أحسن حالا وأكثر تماسكا، فإنه هو الآخر ملىء بالتناقضات التى سوف يكون لها آثارها على فوز كلينتون وكذا آثارها على المدى البعيد على سياسات الحزب. فإن أحدا لم يتوقع للاشتراكى الديمقراطى ساندرز أن يحقق هذه النتائج المثيرة والمبهرة وتحديه لمؤسسة الحزب الديمقراطى. ويكتفى ساندرز هذه المرة بما قام بتدشينه من حركة جديدة جذبت الكثيرين وتُشَكِل قاعدة صلبة للانطلاق منها مستقبلا وقد تلقى نجاحا فى الانتخابات القادمة. وتتمثل مطالب هذه الحركة فى رفع الحد الأدنى للأجور إلى خمسة عشر دولارا فى الساعة، ومجانية التعليم الجامعى العام، وأن يُغَطِى الضمان الاجتماعى جميع الأمريكيين، أى شمولية النظام الصحى، وأن تقوم كُبريات الشركات الأمريكية وكذا الأغنياء بتحمل الفارق من خلال رفع معدلات الضرائب التصاعدية.
ويبدو أن كلينتون – على العكس من ترامب – تضمن حصولها على ترشيح الحزب لها فى مؤتمره فى يوليو بفيلادلفيا. ومع ذلك، فإن ساندرز يستمر فى المنافسة متوعدا بأنه لن يُوَقِف حملته قبل انعقاد المؤتمر. ويعلم ساندرز جيدا أن لا أمل له فى الفوز على كلينتون، فإن مراده أكثر شمولا. وباعتبار ساندرز – مثله فى ذلك مثل ترامب – من خارج نطاق مؤسسة الحزب، فهو يأمل فى تغيير برنامج الحزب الديمقراطى الذى ــ فى تصوره ــ يجنح كثيرا إلى الوسط أو اليمين الوسطى، ويرغب ساندرز فى جذب الحزب أكثر يسارا لكى يعمل على تحقيق مطالب حركته والتى لاقت قبولا لا سيما بين الشباب الأمريكى المثقف.
ومن المرجح أن يمتنع الكثيرون من مؤيدى ساندرز عن تأييد كلينتون فى الانتخابات العامة؛ لانعدام ثقتهم فيها. بل إن البعض لا يستبعد تحول بعض الديمقراطيين لتأييد ترامب، باعتبار أن العامل المشترك بين كل من ترامب وساندرز هو رفض كلاهما للمؤسسة والسياسيين فى واشنطن وبارونات وول ستريت ورغبة هؤلاء فى قلب النظام القائم والذى يعمل على استغلال الطبقة العاملة لصالح الطبقة الغنية.
***
تفرض هذه التناقضات نفسها بقوة على الانتخابات الجارية وتفتح الباب على مصراعيه أمام أية احتمالات. فليس مؤكدا بعد أن يفوز ترامب بترشيح حزبه، وليس مؤكدا أيضا أن تنجح هيلارى كلينتون فى الانتخابات العامة، إذا خذلها مؤيدو ساندرز وامتنعوا عن التصويت لصالحها. فالسؤال هنا من هو الفائز الحقيقى فى هذه الانتخابات؟ وفى اعتقادى أن الفائز الحقيقى هو الشعب الأمريكى ورفضه لمؤسستى الحزبين وأساليبهما الملتوية، وإن كان نجاحه ليس مطلقا إنما هو بمثابة الخُطوة الأولى على الطريق الصحيح.