الانقسام حول مصير الاتفاق النووى الإيرانى
إبراهيم عوض
آخر تحديث:
السبت 5 مايو 2018 - 10:25 م
بتوقيت القاهرة
وكأنه على خشبة مسرح، عرض رئيس الوزراء الإسرائيلى بنيامين نتنياهو يوم 30 إبريل الماضى وثائق قال إنها نقلت من إيران فى إنجاز مخابراتى كبير وشدد على أنها تبيّن أن إيران كذبت بشأن أنشطتها النووية قبل عقد ما يعرف بالاتفاق النووى واستمرّت فى هذا الكذب بعد عقده. المقصود هو الاتفاق المنعقد فى سنة 2015 فيما بين إيران من جهة، والدول الخمس دائمة العضوية فى مجلس الأمن، بالإضافة إلى ألمانيا من جهة أخرى، وهو الاتفاق الذى حدّ من الأنشطة النووية لإيران، خاصة فيما يتعلق بتخصيب اليورانيوم، وأنشأ نظاما صارما لمراقبة تطبيقه. فى عرف نتنياهو، الاتفاق كان مبنيا على افتراضات خاطئة، والاستنتاج هو أن ما بنى على خطأ هو خطأ، وبالتالى يجب إلغاء الاتفاق.
الانقسام جلى أحيانا ومبطن أحيانا أخرى حول مصير الاتفاق الذى سيعلن الرئيس الأمريكى موقفه منه يوم 12 مايو الحالى، وما سيعلنه عنه تحديدا هو الاستمرار فى عدم تطبيق عقوبات اقتصادية على إيران وعلى من يتعاملون معها، أو العودة إلى تطبيقها، وهى عقوبات أضرّت ضرراّ بالغا بالاقتصاد الإيرانى وكانت مما حداها إلى عقد الاتفاق بعد مفاوضات طويلة وبالغة التعقيد. الرئيس الأمريكى يريد إعادة التفاوض بشأن الاتفاق وفرض شروط جديدة على إيران. هذه الأخيرة أعلنت على لسان وزير خارجيتها قبل نهاية الأسبوع الماضى أنه إذا عادت الولايات المتحدة إلى تطبيق العقوبات فإنها ستنسحب من الاتفاق، وعلى لسان مسئول آخر إنها ستستأنف تخصيب اليورانيوم وبنسبة عالية جدا. هذا التخصيب هو ما لا تريده إسرائيل لأنه يقرّب إيران من القدرة على إنتاج السلاح النووى، الذى تنكر إيران أنها راغبة فيه أصلا.
الوكالة الدولية للطاقة الذرية أعلنت أنه ليس فى وثائق نتنياهو جديد وأنها تحققت من سنوات من أنه لا برنامج لتصنيع السلاح النووى فى إيران. الأغلبية الساحقة من المحللين تتخذ الموقف ذاته. ومع ذلك فالانقسام جلى بشأن مصير الاتفاق: الانقسام فى داخل الإدارة الأمريكية وعلى المستوى الدولى للدول الست الموقعة على الاتفاق، وعلى المستوى الإقليمى فى الخليج والمشرق العربى.
***
فى اليوم التالى للعرض المسرحى، صرّح مسئول إسرائيلى بأن نتنياهو عرض المعلومات على ترامب وأن هذا الأخير وافق على أن تعلن إسرائيل عما اكتشفته قبل 12 مايو. التنسيق بينهما واضح بشأن الاتفاق الذى وصفه أحدهما بالفظيع والآخر بالمفزع. وزير الخارجية الأمريكى الجديد، مايكل بومبيو، استعار من قاموس نتنياهو واعتبر أن الاتفاق «قد بنى على أكاذيب». فى مقابل الرئيس الأمريكى ووزير خارجيته، الجنرال جيمس ماتيس وزير الدفاع كرر أن الاتفاق ليس مثاليا وأنه يمكن تحسين بعض جوانبه، وهو عبّر عن قلقه من بعض سياسات إيران مثل مساندتها للرئيس السورى أو إمداداتها للقوات الموالية لها فى اليمن، غير أنه أعلن أيضا فى شهادة أمام لجنة الخدمات المسلحة فى مجلس الشيوخ الأمريكى بشأن الاتفاق: «يمكننى أن أقول إنه كتب بناء على افتراض أن إيران ستحاول الخداع، ولذلك فإن التحقق موجود فيه وهو شديد جدا فيما يتعلق بإمكاننا الدخول إلى هناك» ــ أى إلى المفاعلات النووية الإيرانية ــ مع مفتشى الوكالة الدولية للطاقة الذرية. وزير الدفاع الأمريكى لم يعلن صراحة إذن عن موقفه من ضرورة الإبقاء على الاتفاق أو الانسحاب عمليا منه، ولكن الحاجة إلى الحفاظ عليه مبطنة فى تصريحه.
هذا هو نفس موقف الدول الأوروبية الثلاث الموقعة على الاتفاق، فهى وصلت إلى نتيجة معاكسة لما رمى إليه نتنياهو بوثائقه. هى لم تصدّق على ما قاله رئيس الوزراء الإسرائيلى أو تفنّده وإنما قالت بصيغ متقاربة وبوضوح تام إن مزاعمه تؤكد الحاجة إلى الابقاء على الاتفاق؛ لأنه يحدّ من التطلعات النووية الإيرانية. بعد أن أفاض الرئيس الفرنسى إيمانويل ماكرون فى إظهار التعابير عن صداقته الحميمة للرئيس ترامب إبان زيارته لواشنطن منذ أسبوعين، فإنه خالفه تمام المخالفة فى سياساته عندما ألقى خطابا أمام مجلسى الكونجرس الأمريكى ثم صرح بعدها أن فرنسا لن تحذو حذو الولايات المتحدة إن هى انسحبت من الاتفاق. وبعدما كشف نتنياهو عن وثائقه، عاد مسئول فرنسى فصرح بأن المزاعم الإسرائيلية تؤكد وجاهة الاتفاق. وزير الخارجية البريطانية أكد بدوره أن ما أعلنه رئيس الوزراء الإسرائيلى يبيّن لماذا نحتاج إلى الاتفاق النووى مع إيران. متحدث باسم الحكومة الألمانية قال بدوره إن نظام المراقبة الدولى الذى ينص عليه الاتفاق ضرورى لضمان احترام إيران للقيود المفروضة على برنامجها النووى.
فى المقابل تتفق الحكومات الأوروبية مع ترامب بشأن دور إيران فى النزاعات الإقليمية وبرنامجها للصواريخ الباليستية، وهى تريد أن تقيّد إيران فى هذين المجالين، وإن لم يكن واضحا بعد سبيلها إلى تحقيق ذلك. وكأنما ترغب الحكومات الأوروبية فى ترضية ترامب فى هذين المجالين فى مقابل ألا يهدم الاتفاق النووى.
الوضع جد شائك بالنسبة للدول الأوروبية، خاصة فرنسا وألمانيا. بريطانيا لن تستطيع، أيا كان ما سيحدث، إلا أن تقبل بدون لغط كثير ما سيقرره الرئيس ترامب للولايات المتحدة. بريطانيا عزلت نفسها عن أوروبا بقرار الخروج من الاتحاد الأوروبى وهى بذلك لا يمكنها أن تبتعد أيضا عن «شريكها الخاص»، الولايات المتحدة. أما فرنسا وألمانيا فهما ستكونان فى موقف محرج للغاية إن قرر ترامب إنهاء الاتفاق النووى. إن سكتتا وقبلتا بقرار ترامب ونفذتا وشركاتهما ما سيترتب عليه من استئناف العقوبات والمقاطعة الاقتصادية لإيران فهما ستفقدان ماء وجهيهما أمام العالم، وستسقطان درجات فى سلم المكانة، وستتبيّن التبعية السياسية لكل منهما للولايات المتحدة، ناهيك عن ضياع فرص اقتصادية هائلة فى إيران يحتاج إليها الاقتصاد الأوروبى. وإن تحديتا القرار، فهذا يعنى شرخا هائلا فى التحالف الأطلسى وهزة قلت السوابق عليها فى النظام الدولى.
***
روسيا والصين لا تريدان أى تعديل على الاتفاق النووى. روسيا حليفة لإيران فى سوريا وبينهما مثلما بين الصين وإيران مصالح اقتصادية. فضلا عن ذلك، لا تقبل هاتان القوتان الكبيرتان بأن تكون الولايات المتحدة هى المحدد للقواعد وأن تكون الزعيم الأوحد للنظام الدولى. بالإضافة إلى مصالح الدولتين مع إيران، مسألة توزيع الأدوار فى النظام الدولى وقواعد عمل هذا النظام هامة بالنسبة إليهما.
فى الإقليم، الدول العربية مواقفها متباينة، صرّحت بذلك أو أضمرت. السعودية بالذات، ومعها الإمارات، تتفقان فى الموقف مع نتنياهو، وهو إلغاء الاتفاق. ليس هذا بالضرورة موقف الكويت، ولا عمان ذات العلاقات الوثيقة بإيران والتى كانت قد استضافت فى أراضيها اجتماعات أفضت إلى إبرام اتفاق سنة 2015. لبنان، وطرف أساسى فى نظامه هو حزب الله، لا يمكن أن يؤيد إلغاء الاتفاق. العراق ذو الصلات الوثيقة بإيران لا يمكن تصور قبوله لهدم الاتفاق بدوره.
أما مصر فهى لا تقيم علاقات دبلوماسية مع إيران، وتصدر عن مسئوليها تصريحات شديدة فى حقها بين الحين والآخر، وهى تربطها أواصر وطيدة بكل من السعودية والإمارات، ويقال إن صلات وثيقة تجمع بين رئيسها ورئيس الولايات المتحدة، فضلا عن انصهار الجليد البادى بينها وبين إسرائيل. ومع ذلك، فإنه لم يصدر عن أى من المسئولين فى مصر أى تصريح يهاجم الاتفاق النووى أو يدعو إلى تعديله. هذا موقف جيد يجب أن تتمسك به مصر وألا تخرج عليه. انهيار الاتفاق النووى ستترتب عليه، إن لم تكن حرب بين إسرائيل وإيران، وهو منتهى ما يحذر منه بعض المحللين، فتوترات هائلة فى الإقليم كله من الخليج إلى المشرق العربى تهز السياسة والاقتصاد فيه. من حيث المبدأ يجب استبعاد الحرب وسيلة لتسوية المنازعات فى الإقليم، ولكن الاقتصاد المصرى أيضا لا يتحمل لا حربا ولا توترات فيه. السياحة التى بدأت بالكاد فى التعافى ستتلقى ضربة قاضية جديدة وأسواق العمل فى الإقليم ستتزلزل هى التى تستوعب ما يربو على ثلاثة ملايين عامل يخففون من الضغوط على سوق العمل المصرية ويرسلون التحويلات المالية إليها تعين أسرهم على تحمل تكاليف المعيشة وتسند ميزان المدفوعات المختل بفعل العجز المزمن فى الميزان التجارى المصرى. هذه هى الاعتبارات الأولى التى ينبغى أن تحكم الموقف المصرى من أى أسباب للحرب أو التوتر فى الإقليم.
***
الحذر مطلوب من أى تأليب. أحدهم ذكّر بشهادة لبنيامين نتنياهو أمام الكونجرس الأمريكى فى سنة 2002: «لا مجال للنقاش إطلاقا فى أن صدّام يرغب ويعمل ويتقدم نحو صناعة أسلحة نووية.. إذا أطحتم بنظام صدّام فإننى أضمن لكم أن ذلك ستكون له آثار إيجابية هائلة فى الإقليم كله». لا كان فى العراق برنامج لصناعة الأسلحة النووية ولا كان للإطاحة بصدّام آثار إيجابية فى الإقليم إطلاقا!
من الاحتمالات ألا يهدم ترامب الاتفاق فى 12 مايو القادم، وذلك لسببين اثنين: الأول هو تفادى إحراج الرئيس الفرنسى والمستشارة الألمانية اللذين زاراه فى الأسبوع الماضى، والثانى هو أنه وهو وعلى وشك الاجتماع برئيس كوريا الشمالية بنية عقد اتفاق معه، قد يريد أن يتفادى تصوير الولايات المتحدة على أنها لا تحترم تعهداتها ولا يمكن الوثوق فيها.
إن حدث هذا فهو لا يعنى أن الرئيس الأمريكى لن يعود إلى تهديداته فى الشهور القادمة. فى كل الأحوال ينبغى لمصر أن تتمسك بموقفها بل وأن تبنى عليه ولنفسها دورا ينتظره الإقليم ويليق بها.