انظر إلى نصف الكوب «المليان»
محمد سعد عبدالحفيظ
آخر تحديث:
السبت 5 مايو 2018 - 10:20 م
بتوقيت القاهرة
مطالب دائما بالنظر إلى نصف الكوب الممتلئ، وبخلع النظارة السوداء حتى أرى نور الشمس، وأن أتناول فيما أكتب الإنجازات التى لا ينكرها إلا جاحد كما أكتب عن السلبيات والإخفاقات، فالبلد يشهد طفرة اقتصادية يتحدث عنها الغريب قبل القريب، والرئيس السيسى لا يدخر جهدا لاستكمال مسيرة البناء، فلماذا لا أتناول فى هذه الزاوية الجهد المشكور لمؤسسات الدولة؟.
«أليس من باب التوازن أن تنتقد فى مقال وتعرض الإيجابيات فى مقال آخر؟.. ألا يوجد فى هذا البلد سوى القرارات غير المدروسة وسجن الصحفيين وحصار الحريات؟.. هل مصر الدولة الوحيدة التى تتخذ إجراءات وتدابير غير عادية فى المراحل الاستثنائية؟.. ألا تعلم أن النظام الحالى يدفع فاتورة تأخر خطط الإصلاح وتآمر قوى الشر على الدولة المصرية».
هذه عينة من نصائح ورسائل تصلنى من آن إلى آخر من «رفاق»، بعضهم قلق على من مصير من سبقونا إلى «بورتو طرة»، والآخر قانع بالفعل أن الدولة فى حالة حرب وعلى أبناء صاحبة الجلالة أن يصطفوا حول القيادة حتى يمر البلد من عنق الزجاجة، والبعض الثالث لا تؤخذ رسائله إلا على محمل التهديد المغلف بالنصيحة، خاصة لو وصل الكلام إلى محطة الاتهام بـ«نشر المناخ التشاؤمى».
من بديهيات العمل الصحفى التى تعلمنها ونحن نخطو خطواتنا الأولى فى تلك المهنة، أن دور الصحفى هو الرصد والمتابعة ووضع الرأى العام فى قلب الحدث، وتحذير المواطن والحاكم على حد سواء بمواطن الخلل والقصور، فالصحافة هى عين المحكومين التى تراقب مؤسسات الحكم، وهى «الرادار» الذى يمكِّن الحكام من معرفة هموم الناس ومتاعبهم وشكواهم، وهو ما جعل البعض يعتبرها سلطة رابعة إلى جانب سلطات الدولة الثلاث «تنفيذية وتشريعية وقضائية».
منذ تأميم الصحافة فى اوائل ستينيات القرن الماضى، تحولت معظم الجرائد إلى نشرات لمؤسسات الحكم، تنقل عادة ما يملى عليها ويتحكم الرقيب فيما ينشر بها، وهو ما أفقدها ثقة الناس، لدرجة أنه عندما يريد أحد التشكيك فيما يسمع فيقول «ده كلام جرايد» باعتبار أن الكلام المطروح فاقد للمصداقية.
ظلت الأمور هكذا حتى ظهرت فى نهايات القرن الماضى صحف المعارضة «الوفد والأهالى والشعب والعربى والأحرار.. إلخ» قدمت تللك الصحف لغة مختلفة وصحافة مختلفة، فاستعادت بعضا من الثقة المفقودة وعاد الناس يتحدثون عما نشر فى «الوفد» أو «الشعب» أو «العربى» كحقائق فى مقابل ما ينشر فى «صحف الحكومة».
مع مطلع الألفية حلت الصحافة الخاصة محل صحف المعارضة التى تدهورت بفعل تفكك الأحزاب والتدخلات الأمنية، فانتقل هامش الحرية إلى «الدستور» و«المصرى اليوم» و«الشروق» وغيرها، وحازت تلك الصحف مع عدد من الفضائيات الخاصة المملوكة لرجال الأعمال على ثقة قطاع كبير من المواطنين، ففيها وجد الناس الخبر والرأى والتحليل.
خاضت الصحف المعارضة والخاصة معارك كبرى، كشفت للرأى العام قضايا فساد مختلفة، وفضحت عمليات تزوير واسعة للانتخابات والاستفتاءات التى جرت فى نهايات عصر مبارك.
فى السنوات الثلاث الأخيرة جرت عمليات تأميم وإخضاع واسعة لمعظم المنصات الإعلامية، ومن لم يقبل بالدخول فى حظيرة السلطة حُجب وأُجبر على الإغلاق، أو حُوصر اقتصاديا حتى يستسلم ويرفع الراية البيضاء، فصار الخبر والرأى المختلف فى هذه الأيام «ليمونة فى بلد قرفانة»، وأصبح العبدُ لله ومَنْ لفَّ لفَّه من أبناء الكار متهمين بمحاولة تيئييس الناس وتشويه الدولة وإنجازتها.
لا أنكر وجود إنجازات للسلطة الحالية، لكنها لا تختلف كثيرا عن إنجازات مبارك التى تحدَّث عنها الإعلام الحكومى على مدار ثلاثة عقود، إنجازات «خرسانية» من مدن جديدة وشبكات طرق ومترو أنفاق.. إلخ، لم تصمد أمام هبَّات التغيير ولم تشفع له أمام شعبه.
الإنجاز الحقيقى الذى يستطيع أى نظام حكم أن يقاوم به أى طوفان هو ترسيخ دولة القانون وإنفاذ مواد الدستور وبناء دولة ديمقراطية مدنية حديثة، بما يعنيه ذلك من رقابة وشفافية وعدالة ومساواة وتعددية ومشاركة وتداول سلطة وحرية صحافة واستقلال قضاء، هكذا تستطيع الدول أن تعبر من عنق الزجاجة، وعند غياب هذا الإنجاز يصبح الحديث عن الاصطفاف والوقوف خلف الدولة وعرض الإيجابيات ليس أكثر من «رطَّان».