مكانى هو الآن هنا
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 5 مايو 2021 - 8:05 م
بتوقيت القاهرة
أعود وفى العودة الكثير من الشوق والترقب. الشوق لأشياء أعرف أنها لا تتغير مع الوقت ولا مع البعد. الورد البلدى مثلا لا تبهت ألوانه ولا رائحته وهو يباع على ناصية الشارع مع ترحيب بائع يقف هنا منذ أن سكنت المدينة من سنوات طويلة. والترقب هو تجاه ما أتوقع أنه تغير: أصدقاء رحلوا، واجهة العمارة تشققت، الرصيف تكسر.
***
تتحكم العواطف كثيرا بعلاقتى بالأماكن. أحب أن أتمسك بتفاصيل حياتية يومية فأعيدها فى ذاكرتى مع كل زيارة فى محاولة منى أن أدعى أننى ما زلت هنا، لم أرحل. أزور البقال والخباز وأبحث عن بائعة الخضار، هل هى ما زالت تفترش الناصية وها هو ابنها الذى عرفته منذ سنوات رضيعا يجلس فى حضنها وهى تصف حلاوة الفراولة.
***
كثيرا ما أدعى أننى حين أترك أى مكان فإنى أغلق بابه بإحكام خلفى ولا ألتفت، وحين يسألنى الأصدقاء إن كنت أشتاق إلى بيتى هناك أنفى بشدة وأشرح أن بيتى هو حيث أنا الآن فى مكانى الجديد. أشتاق للأصدقاء وأحن لناصية شارع بعينها ثم أشترى الخبز من فرن كنت أتردد عليه وأحاول ألا أعترف أننى ربما لم أعد أجد منتجاته بالجودة التى عهدتها. ربما تغيرت أنا نفسى ولكنى أتمسك بتفاصيل حياتية تذكرنى بمرحلة كنت سعيدة فيها.
***
مع التنقل المتكرر، حتى لو أنه تنقل اختيارى وليس إجباريا، تعلمت أن أربط المدن بمراحل حياتية بعضها مفصلى، ربما كلها مفصلى. هل من مراحل غير مفصلية؟ هل من مرحلة لا يحدث فيها تغييرات للمسار؟ بلد ولادة ابنى، بلد حملت فيه ابنى الثانى، بلد غيرت فيه عملى، بلد مرض فيه زوجى وهكذا. فى كل محطة كنت أفرش حياتى على المساحة من حولى وأعتبر أننى لن أرحل. أتموضع فى المساحة الجديدة كأنها مكان إقامتى الأبدى، حتى يحين موعد الرحيل من جديد فألملم حياتى وحياة أسرتى وأضعها كلها فى صناديق. أكتب على كل صندوق كلمة أو كلمتين لأتذكر محتواه، ثم كثيرا ما أتنازل عن بعض الصناديق بين المحطتين وغالبا ما أنسى ما كان فى داخلها.
***
أتساءل مع كل انتقال إن كان يحق لى أخذ صندوق واحد فقط ماذا سأضع داخله؟ أتمسك بكل ممتلكاتى بغض النظر عن قيمتها ثم أتخلى عنها فى لحظة فى مخيلتى. بعد سنوات التغريبة السورية الكبيرة وقصص من هربوا من بيوتهم دون ممتلكات صرت أكثر تمسكا بما عندى وأكثر قابلية للاستغناء عنها بالوقت ذاته! مكانى هو هنا الآن بين أشيائى وأريدها كلها. ثم أتخيل أنها لم تعد لى وأبدأ برسم مكانى الجديد فى عقلى كما فى التطبيقات الرقمية الحديثة التى أغير من خلالها ألوان الجدران وأضيف لوحة أو سريرا فى غرفة من خلال لمسى للشاشة.
***
أعود إلى أماكن عشت فيها فأمشى دون تفكير إلى الزاوية التى كنت أنتظر فيها أبنائى عند خروجهم من المدرسة. أتذكر أننى انتظرت يوما فى الظل تحت الشجرة ورأيت ابنى الأكبر يخرج ويبحث عنى فى زحمة بوابة المدرسة، حاولت أن أشد انتباهه وأن أرى ملامحه تتغير فى ثوانٍ سريعة بينما أحاول الوصول إليه حتى ظننت أن ملامحه بدأت تذوب تحت قلقه من فكرة أن أهله ربما نسوا ساعة خروجه. احتضنته وسمعته يقول «فكرتك نسيتينى» وذاب قلبى أمام طفل يشعر أننى ربما تخليت عنه.
***
أتذكر هذه اللحظة تحديدا وأنا أمر تحت الشجرة تلك، تماما كما تذكرت فى مدينة أخرى انتظارى لابنى الثانى فى أول يوم دخل فيه إلى المدرسة وبكى طويلا حين أدرت له ظهرى. سنوات فيها أحداث يومية، فلا يوم يمر دون قصة. بدأت أشعر أن كل الأحداث الحياتية مهمة، حين صرت أنظر إليها من بعيد، من حيث أنا اليوم.
***
أجلس أمام ملاعب الأطفال وأقول إننى سوف أعود إليهم حتى بعد سنوات طويلة. لا يهم إن كبر أطفالى وإن تركوا البلد فأنا سوف أجلس هنا لأنظر إلى أمهات كثيرات قد أرى نفسى فى بعضهن وأضحك من توترهن، كما كنت أنا أيضا أتوتر وأتساءل إن كنت سأقول لهن أن الاسترخاء أسهل من التوتر وأن الطفل سيقع وأنه سيتمرغ فى التراب مهما نهرنه. سوف أراقب أمّا محددة يجلس معها شريكها ويبدو أنهما يناقشان محطتهما القادمة فتصلنى كلمات أجمع القصة من خلالها: «صناديق، موافقات العمل، مدارس، البيت، أمى وأبى».
***
فى كل عودة أتأكد أننى رحلت، فى كل زيارة أعرف أن حياتى لم تعد هنا رغم بقاء الملعب والخباز والورد البلدى. أو ربما الورد البلدى هو ما يقنعنى أننى عدت، وأن بيتى هو هنا، لأن بيتى هو دوما الآن حيث أنا، حتى لو فى زيارة قصيرة.
كاتبة سورية