نشر موقع Eurasia Review مقالا بتاريخ 28 إبريل للكاتب ريان ماكماكين، تناول فيه السياق التاريخى الذى هاجمت فيه واشنطن انفصال أوكرانيا عن الاتحاد السوفيتى، وسبب عدائها الشديد للحركات القومية فى ذلك الوقت... نعرض من المقال ما يلى.تحب اليوم حكومة الولايات المتحدة التظاهر بأنها البطل الوحيد وراء الاستقلال السياسى للبلدان التى كانت تابعة لإمبراطوريات ديكتاتورية. لكن ما يُنسى غالبًا هو أنه فى الأيام التى أعقبت سقوط جدار برلين، عارضت واشنطن استقلال الجمهوريات السوفيتية مثل أوكرانيا ودول البلطيق!
الحكاية بدأت عندما دعمت إدارة بوش الأب بشكل علنى جهود ميخائيل جورباتشوف لإبقاء الاتحاد السوفيتى متماسكًا بدلا من السماح للاتحاد باللا مركزية والتفتت لدول أصغر. نظام الولايات المتحدة وأنصاره تبنوا، فى ذلك الوقت، وجهة النظر التى تقول إن القومية ــ وليس الاستبداد السوفيتى ــ كانت المشكلة الحقيقية لشعوب أوروبا الشرقية والقوقاز.
فى حالة أوكرانيا، ألقى الرئيس جورج بوش الأب محاضرة للشعب الأوكرانى فى كييف عام 1990 حول مخاطر السعى إلى الاستقلال عن موسكو، والتهديد القومى.
اليوم، لا تزال القومية العدو اللدود لواشنطن. بمعنى أن أبواق واشنطن تعلق بشكل روتينى على مخاطر القومية الفرنسية والقومية المجرية والقومية الروسية. مما جعل مصطلح «القومية» مطبقًا بطرق مقيتة، كما هو الحال فى «القومية البيضاء».
لكن عندما تكون القومية مناسبة لمنظمة حلف شمال الأطلسى (الناتو) وأعضائها الأوروبيين المستقلين، يُقال لنا إن القومية قوة من أجل الخير. وبالتالى، فإن النظام الأمريكى ووسائل الإعلام يتظاهرون عمومًا بأن القومية الأوكرانية تستحق الثناء.
ومع ذلك، فى عام 1991، لم تكن الولايات المتحدة قد قررت بعد أن تدافع عن «القومية»، لذلك وجدنا النظام الأمريكى يقف إلى جانب موسكو فى دعم جهود خنق القومية المحلية للانفصال عن الدولة السوفيتية القديمة. لكن السياق الذى تم فيه مناهضة القومية هو حالة مثيرة للاهتمام شهدتها كل من إدارة بوش الأب والسياسة الخارجية للولايات المتحدة قبل ظهور الهيمنة الليبرالية.
• • •
فى أواخر الثمانينيات، كان من الواضح أن الاتحاد السوفيتى بدأ يفقد سيطرته على أجزاء كثيرة من نظامه السياسى الهائل. بدأ القوميون داخل الاتحاد السوفيتى فى تأكيد سيطرتهم المحلية. على سبيل المثال، بحلول عام 1989، كان الأرمن والأذريون متورطين فى الصراع على ناجورنو كاراباخ والذى يستمر حتى يومنا هذا. اندلع العنف العرقى، لكن موسكو، نظرا لحالتها الضعيفة، أرجأت اتخاذ أى إجراء. ومع ذلك، فى يناير 1990، تحركت موسكو فيما يعرف اليوم فى أذربيجان باسم «يناير الأسود»؛ حيث توغلت الدبابات السوفيتية فى مدينة باكو الساحلية المطلة على بحر قزوين وقتلت ما يصل إلى 150 آذريا (العديد منهم من السكان المدنيين). كان الهدف الظاهرى للتدخل هو وقف المذابح الأذربيجانية ضد الأرمن، لكن الهدف الحقيقى كان منع الجبهة الشعبية الأذربيجانية من الاستيلاء على السلطة.
عندما ظهرت الدبابات السوفيتية لمنع هذا الانقلاب المحتمل للاستقلال عن موسكو، كان الشعور فى واشنطن بالارتياح وليس الفزع. كانت واشنطن متمسكة بفكرة أن مناهضة القومية هو ضمان استمرار الوجود. مسئول فى وزارة الخارجية الأمريكية ــ وقتذاك ــ أكد أن هذه الدوافع القومية القديمة «أشباح خطيرة» من ماضى أوروبا ويمكن أن تؤدى إلى «فوضى جيوسياسية». كان مسئولو إدارة بوش أيضا «قلقين» من أن مجموعات وطنية أصغر قد تحل محل الاتحاد السوفيتى. عموما، فى ذلك الوقت، لم يكن غريبا أن نسمع فى أوروبا أن القومية ستؤدى إلى وضع مشابه لما يُفترض أنه تسبب فى الحرب العالمية الأولى، حيث قال أحد «كبار مستشارى بوش»: «إنه عام 1914 مرة أخرى»!.
• • •
فى أوائل عام 1990، كانت الولايات المتحدة تقف ضد استقلال أوكرانيا ودول البلطيق. لكن بحلول أواخر عام 1990، أصبح من الواضح بشكل متزايد أن الدولة السوفيتية كانت فى ورطة عميقة وأن الأحداث كانت تتصاعد خارج نطاق سيطرة موسكو أو واشنطن. كان الوضع فى دول البلطيق حادًا بشكل خاص. ففى 30 مارس 1990، أعلنت ليتوانيا استقلالها وانفصلت عن الاتحاد السوفيتى. ردت الدولة السوفيتية بالحصار. بدأت لاتفيا وإستونيا فى التحرك نحو الاستقلال أيضًا، وانفصلا رسميًا فى أواخر أغسطس 1991.
لكن حتى أوائل أغسطس 1991، كانت واشنطن تحت قيادة جورج بوش الأب لا تزال مهووسة بـ «التهديد» القومى. وعندما ادعت موسكو فى أوائل عام 1990 أن استقلال البلطيق سيشكل «تهديدًا للاستقرار الأوروبى»، نال هذا الموقف تعاطفًا كبيرًا داخل إدارة بوش وفى عواصم أوروبا الغربية.
ظهر هذا التأييد لنظام موسكو والقيود التى فرضتها على القومية مرة أخرى فى 1 أغسطس 1991. كان هذا عندما ألقى جورج بوش الأب خطابه الشهير «تشيكن كييف» أو «دجاج كييف». فى هذا الخطاب الذى وجهه إلى مجلس السوفيت الأعلى لاتحاد الجمهوريات الاشتراكية السوفيتية الأوكرانى، استفز بوش الشعب الأوكرانى بضرورة قبول حكم موسكو ورفض القومية، قائلا: «الحرية ليست مثل الاستقلال. لن تدعم الولايات المتحدة أولئك الذين يسعون إلى الاستقلال من أجل استبدال الطغيان البعيد (موسكو) بالاستبداد المحلى. لن يساعدوا أولئك الذين يروجون للقومية الانتحارية القائمة على الكراهية العرقية».
بعبارة أخرى، تم استدعاء البعبع القومى ليحافظ على تماسك الاتحاد السوفيتى. الشيوعيون «المعتدلون» المؤيدون لموسكو استقبلوا تصريحات بوش الأب بشكل جيد. لكن القوميين الأوكرانيين لم يقبلوا بها، كما أصيب الانفصاليون البلطيق بالرعب. على كل، وبعد أقل من ستة أشهر، انفصلت دول البلطيق كلها عن الاتحاد السوفيتى، ومُرر استفتاء أوكرانى على الاستقلال بسهولة. لكن استمر ضعف الدعم للانفصال فى شبه جزيرة القرم وأجزاء من شرق أوكرانيا.
صفوة القول، حذرت الولايات المتحدة مرارًا وتكرارًا من مخاطر الانفصال والقومية. فبعد كل شيء، بحسب وجهة نظر واشنطن، فإن نهاية الدولة الكبيرة وانقسامها لدول أصغر ليست ولادة جديدة للحرية، بل اندلاعا «للفوضى» و«عدم الاستقرار». وهكذا، عوملت موسكو على أنها صديقة لواشنطن أكثر من الانفصاليين فى كييف أو لاتفيا.
ومع ذلك، لم يستمر الذعر بشأن القومية فى الاتحاد السوفيتى السابق طويلا. جاء تغيير واشنطن عندما أدركت أنها تستطيع تمديد النظام «أحادى القطبية» الخاص بها من خلال توسيع الناتو على الرغم من الوعد بعدم توسيع الناتو شرقا. فبمجرد أن أصبح واضحًا أنه يمكن تسخير القومية لخدمة أهداف الناتو، أصبحت القومية سمة من سمات «السيادة» و«النظام القائم على القواعد».
لكن وكما رأينا من إساءة للجهود البولندية والمجرية للسيطرة على حدودهما وتأكيد الاستقلال عن الاتحاد الأوروبى، فإن القومية هنا لا تطاق لأنها أزعجت المفوضية الأوروبية أو البيت الأبيض!.
ترجمة وتحرير: ياسمين عبداللطيف زردالنص الأصلى: