كيف نعوض ما فاتنا فى مسار الحكم وإدارة شئون الدولة؟
معتز بالله عبد الفتاح
آخر تحديث:
الجمعة 5 يونيو 2009 - 7:56 م
بتوقيت القاهرة
واحدة من وظائف العلم أن يحول ما هو استثنائى إلى قوانين، وما هو خارق للعادة إلى قواعد حاكمة. فلا شك أن أول طيار كان شخصا معجزا بمعايير عصره، أما الآن فقواعد الطياران مسألة يتم تعلمها فى معاهد متخصصة على نحو جعل قيادة الطائرة مهنة كأى مهنة أخرى فى قواعدها ومهاراتها. وهكذا الأمر فى بناء المؤسسات التى تنهض بالدول وتعالج مشكلات المجتمع حيث توجد مقررات دراسية متخصصة فى الهندسة المؤسسية وقواعد إدارة شئون الحكم بناء على التجارب الناجحة والفاشلة فى قطاعات العمل العام المختلفة. فما أنجزه مهاتير محمد فى ماليزيا أصبح جزءا من معرفة إنسانية يمكن تكرارها لمن يفهم ويستوعب خبرته فى هذا المقام.
هذه كانت المقدمة، أما متن الموضوع، فهو مناقشة ما انتهى إليه مقال الأسبوع الماضى من البحث فى كيفية نهضة الدول وانتقالها من حالة التخلف إلى حالة التقدم فى مسار الحكم وإدارة شئون الدولة. وحتى لا يبدو الأمر اختراعا لا أصل له، فمن حق القارئ أن يعرف مثلا أن كاتب هذه السطور يقوم بتدريس مادة على مستوى الدكتوراه لمناقشة «الاقتصاد السياسى للتنمية» وهى مادة ثرية بتجارب الدول المختلفة التى حققت استقلالها بعد الحرب العالمية الثانية، ومن أسف فإنه باستثناء ماليزيا وتركيا فإن ما يمكن أن نتعلمه من المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة قليل.
ولكن من المفارقات أن دولة مثل السودان لها من الإمكانات الطبيعية ما يفوق ما لدى ماليزيا عشرات المرات، كما أن البنية العرقية والانقسامات الأولية لدى الدولتين متقاربتان بشدة. لكن شتان ما بين الدور الذى لعبته القيادة السياسية فى كل من الدولتين. وهو ما جعلت كلاسيكيات العلوم السياسية تصنف القيادة كواحدة من أهم عناصر قوة أو ضعف الدولة. وقصارى القول، فإن الدول التى نهضت تجمعها عدة خصائص تبدأ من قيادة ذات رؤية عصرية قادرة على استيعاب التحديات وبناء مؤسسات قادرة على مواجهتها. والحديث عن بناء المؤسسات هو بالضبط كالحديث عن تحويل ما هو استثنائى إلى قانون وما هو خارق للعدالة إلى قواعد حاكمة. فلو نجحت تجربة ما، فلا بد من مأسستها، أى تحويلها إلى قواعد مؤسسية قابلة للتكرار.
بل إن الإدارة الناجحة للمؤسسات تلعب دورا مهما فى تغيير الثقافة السائدة فى المجتمع، فتصورات المواطنين عن مجتمعهم ودورهم فيه يزيد وينقص بقدر ثقة المواطنين فى قدرة مؤسسات الدولة على أن تنهض بمسئولياتها وأن تضمن لهم صوتا مسموعا وحقوقا مشروعة. وحتى لا يكون الكلام نظريا أكثر من ذلك فإن مجتمعاتنا بحاجة لبناء واحترام القواعد الحاكمة لمؤسسات ست تتسم جميعها بالاستقلال والمهنية. وهذه المؤسسات الست هى:
1 ــ قضاء مستقل عن السلطة التنفيذية سواء بتدخلها المباشر عن طريق التعيين أو بمحاولة الإغواء بالمنح والمنع؛ لأن القضاء المشكوك فى نزاهته يعنى انهيار القانون وشيوع الفساد. وبدلا من تعديل كل هذه المواد من الدستور المصرى، كان من الأهم تعديل المادة 93 من الدستور الخاصة بحق مجلس الشعب فى الفصل فى صحة عضوية أعضائه بعد الاطلاع على تقارير محكمة النقض، بما يجعل من المجلس خصما وحكما فى صحة العضوية على نحو يتيح للأغلبية الحق فى التخلص من القوى النابضة فى المعارضة، ومن ثم تدجين الكثير من العناصر التى لها حصانة برلمانية بحكم المنصب وفقا للدستور. فلو كان حكم القضاء وحده يكفى فى التخلص من المزورين، لكان لدينا برلمان يعبر حقيقة عن إرادة الناخبين. ولا يكفى، والأمر كذلك، أن يعلن رئيس الدولة احترامه لاستقلال القضاء، لأنه كم من أمور يعلنها الرئيس وتضرب بها الحكومة عرض الحائط فيما يبدو وكأنه توزيع أدوار بين الرئيس الذى يقول ويعد وجهازه التنفيذى الذى يعرف أن ليس كل ما يعلنه الرئيس يعنى التنفيذ. وأفضل النماذج بين دول الجنوب فى مهنية واستقلال القضاء تأتى من الإصلاحات القضائية التى شهدتها شيلى فى آخر عشرين عاما.
2 ــ بنك مركزى مستقل يعمل على الاستقرار النقدى والاقتصادى ويخضع فى ذات الوقت لرقابة صارمة من البرلمان؛ لأنه المسيطر على قرارات ترتبط بتدفق الأموال المتاحة للاستثمار والاستهلاك من خلال أداتى سعر الفائدة وسعر إعادة الخصم، فضلا عن أنه القابض على الاحتياطى النقدى وأموال الحكومة وإصدار البنكنوت، فضلا عن أن فساد القائمين عليه يجعله بابا دوارا لأموال الفساد بتحويلها للخارج. ويقدم البنك المركزى لكوريا الجنوبية واحدا من أفضل النماذج فى هذا الصدد.
3 ــ وجود وسائل إعلام وصحافة مستقلة ومهنية؛ لأنها الضامن لتدفق المعلومات الدقيقة والأفكار الجديدة فى المجتمع. إن تاريخ المؤسسات الإعلامية والصحفية المملوكة للدولة فى كل دول العالم المتخلفة يؤكد أنها الأقل قدرة على فضح الاستبداد وانتهاكات حقوق الإنسان والأكثر استعدادا للمبالغة فى الإنجاز والاستبسال فى الدفاع عن تحالف السلطة والثروة والإكراه المفضى إلى الفساد. وحين ندرس تجارب دول الجنوب الأخرى فإن جنوب أفريقيا تقدم المثال الأفضل فى استقلال ومهنية مؤسسات الإعلام.
4 ــ إنشاء لجنة انتخابية مستقلة ومحصنة ونافذة تشرف على العملية الانتخابية من بدايتها وحتى نهايتها. ولكل صفة من الصفات الثلاث معنى يستحق التأمل، فهى مستقلة بحكم القانون عن أى حزب أو جهة أعلى منها، وهى محصنة من التدخلات السياسية لمن هم فى موقع السلطة، وهى نافذة أى قادرة على اتخاذ قرارات تصل إلى حد إلغاء الانتخابات إن كان فيها شبهة تزوير أو بيع أو شراء. ويكون عادة القضاة المنتخبون هم الأفضل للقيام بهذه المهام. وهو تحدٍ يتطلب رغبة أكيدة فى بناء دولة يكون فيها القانون فوق أشخاص الدولة بعيدا عن الشللية والمحسوبية ومحاباة من بيدهم المال والسلطان. ولنا فى الهند الكثير من العبر والدروس فى هذا المقام.
5 ــ جهاز خدمة إدارى مدنى يقوم بدوره فى تنفيذ السياسة العامة للدولة على أساس من الكفاية والكفاءة. والمقصود بالكفاية أن يكون موظفو الدولة فى وضع اقتصادى يسمح لهم باحترام القوانين والسهر على تنفيذها دون الحاجة للرشاوى والإكراميات مع تغليظ العقوبة لأقصى درجة ممكنة بحيث يعود للموظف العام مكانته ودوره الأصيل فى خدمة المجتمع وتنفيذ السياسة العامة للدولة. أما الكفاءة فهى مسألة تدريب وتأهيل مع استعداد لتبنى نموذج ساعات العمل الممتدة ليلا وفى الإجازات بما يساعد على الاستفادة من الطاقة العاطلة من الموظفين. وهو ما لايبدو أن الدولة المصرية فى تاريخنا هذا قد أنجزته وبما يضع عبئا ضخما على نخبة المستقبل لمواجهته. وهنا يبرز مثال تايوان تحديدا كأفضل الأمثلة لجهاز الخدمة المدنى الذى يتمتع بالكفاية والكفاءة.
6 ــ الاستقلال المهنى لأجهزة القمع المشروع «القوات المسلحة والشرطة» فلا ينبغى أن يكون فى الدولة إلا جيش واحد وجهاز شرطة واحد ولا مجال لأى قوى مسلحة أخرى داخل حدود الدولة. ويحسب للرئيس مبارك أنه حقق درجة عالية من مهنية القوات المسلحة المصرية بحيث تبتعد عن أى دور سياسى مباشر كمؤسسة، بيد أن هذا الأمر لا ينطبق على الإطلاق على الشرطة المصرية التى تمارس دورا سياسيا متصاعدا فى تأمين استمرار الحزب الوطنى فى الحكم سواء بمنع الناخبين من التصويت فى الانتخابات أو المرشحين المعارضين من استكمال عمليات الترشيح أو اعتقال المعارضين الذين يخرجون عن نطاق «الكلام» إلى نطاق الفعل، بما جعل البعض يتحدث عن عودة «الدولة البوليسية» التى كنا نظن أننا ودعناها. وتقدم جمهورية التشيك نموذجا ناجحا فى تحقيق هذا الاستقلال المهنى لأجهزة القمع داخل الدولة. إن تراجع عدد كبير من المجتمعات ذات الأغلبية المسلمة، ومن ضمنها مصر، فى مسار السياسة والحكم وإدارة شئون الدولة يقتضى الاجتهاد بشدة من أجل تحقيق مهنية واستقلال هذه المؤسسات عن سيطرة الأحزاب والأسر الحاكمة، وإلا سنظل نعيش فى مجتمعات اقطاعية المضمون تأخذ من الحداثة قشورها، ويحلم أبناؤها بما لا يستطيعون.