إنسان ما بعد الأفكار
صحافة عربية
آخر تحديث:
السبت 5 يونيو 2021 - 7:20 م
بتوقيت القاهرة
نشرت صحيفة الخليج الإماراتية مقالا للكاتب يحيى زكى، يقول فيه إن الكتابات الحديثة تتحدث عن إنسان «ما بعد الأفكار الكبرى» وتصفه بأنه إنسان تتسم حياته بالفوضى ولا هدف له فى الحياة، متسائلا كيف نتجاوز هذا الوضع غير المريح، وذكر فى نهاية مقاله الحل إلا أنه حل ذو وجه قبيح.. جاء فيه ما يلى.
لقد اختفت الأفكار الكبرى، مقولة قديمة أعلنها الكثيرون بصيغ مختلفة مع نهايات القرن الماضى. ولكن الجديد الذى نطالعه منذ عدة سنوات تلك الكتابات التى تتحدث عن إنسان «ما بعد الأفكار الكبرى»، هذا الإنسان تتعدد ملامحه حتى تصل إلى درجة التشظى، فهو يعيش حالة لا مبالاة لدى البعض، أو تتسم حياته بالفوضى كما يذهب البعض الآخر، إنسان استهلاكى لا يهمه إلا لحظته الآنية من دون أية هموم مستقبلية، ولا هدف له فى الحياة، وقته مخصص لمواقع التواصل الاجتماعى، وعلى شفا المرض بـ «الأنوميا»، فقدان الإحساس بأى قيمة، بل هو كائن ربما سيتم تجاوزه إلى نوع آخر.. «سايبورج» أو «روبوت»، وتختلف هذه الرؤى التى توصّف واقع الإنسان ومستقبله وفقا لمنطلق وتخصص صاحبها، ولكنها تجمع كلها على أن الإنسان من دون فكرة يعانى من مأزق مأساوى.
ولكن كيف نتجاوز هذا الوضع غير المريح؟ وهل الحل لدى من يرسم هذه الملامح، ويروج لتلك المقولات يتمثل فى ضرورة البحث عن فكرة كبرى جديدة؟ فى أعمال كثيرة تناقش هذه المسألة، هناك تخوف واضح من الفكرة الكبرى نفسها، يطرح المفكر وعالم النفس الكندى جوردان بيترسون فى كتابه «12 قاعدة للحياة.. ترياق للفوضى»، القضية بشكل جدلى، ففى ذلك الكتاب التنظيرى الضخم، يعتبر بيترسون أن الأفكار الكبرى ضرورية لصحة الإنسان النفسية، فمن دونها يصاب البشر باليأس، ولكنها فى الوقت نفسه لم تؤدِّ، على مدار التاريخ، إلا إلى الصراع والحروب والتطاحن بين مختلف الأيديولوجيات، ومن هنا المفارقة. بل ويعتقد بيترسون أن تلك المفارقة ستكون قضية القرن الحادى والعشرين بأكمله، كيف نمنح الأمل للبشر فى عالم يخلو من الأفكار؟.
الحل لدى بيترسون وعشرات غيره يكمن فى الخلاص الفردى، وهو ما نلاحظه فى عشرات الإصدارات التى نجدها كل يوم، وتتحدث بحميمية إلى كل إنسان على حدة، بل والأكثر أهمية أنه برغم اختلاف مستوى وعمق هذه الإصدارات، إلا أن معظمها ينتمى إلى فئة «الكتب الأكثر مبيعا»، وكلها تؤكد توجها نحو ترسيخ الفرد الأنانى الذى لا يهتم بمشاكل ومعاناة الآخرين.
هل انتهت الأفكار الكبرى، أم أراد لها الكثيرون ذلك؟ ولكن قبل هذا السؤال، علينا أن نسأل: هل يخلو عالم ما بعد الأيديولوجيات من صراع؟ وهل وصل العالم إلى سلام بين مختلف الهويات والأعراق؟ وهل الأيديولوجيا مسئولة تماما عن الحرب والتطاحن بين البشر؟ وهل كنا ننعم بالهدوء والأمن قبل نشأة المنظومات الفكرية التاريخية؟ هى أسئلة لا يطرحها بيترسون وغيره، فمعضلة من يؤسسون لتلك الفكرة الكبرى: «موت الأيديولوجيات»، تتمثل فى إشكالية تعيشها الرأسمالية، فلم تعد مشاعر مثل اللامبالاة والإحباط وصولا إلى العدمية تقتصر على النخب، ولكنها وصلت إلى قطاعات أوسع من البشر، ما يؤكد أن المنظومة الفلسفية الحاكمة للرأسمالية توقفت عن إنتاج محفزات الأمل، من هنا الخطر الذى تواجهه تلك المنظومة، ولا يبقى أمامها إلا محاولة صناعة فكرة كبرى جديدة تتمثل فى ترويج الفردية المطلقة، والتى سيكشف المستقبل عن وجهها القبيح.