البحث عن مَخرجٍ لأوجاعنا الاقتصادية
مصطفى كامل السيد
آخر تحديث:
الأحد 5 يونيو 2022 - 8:20 م
بتوقيت القاهرة
ليس هناك شك فى أننا مقبلون على أوضاع اقتصادية صعبة. ليس هذا ادعاءً كاذبا من جماعة الإخوان، فهذا أمر تحدَّث عنه رئيس الجمهورية، وكان موضوعا لندوات عقدت فى الجمعية العلمية التى تجمع خبراء الاقتصاد والإحصاء والتشريع، وفى بعض الأحزاب السياسية، وعلى الرغم من أن اثنتين من هذه الندوات جمعت من يمثل الاقتصاديين الليبراليين ومن يمثل اقتصاديى اليسار، إلا أنهما لم يختلفا كثيرا فى تشخيص الأزمة، ولا فى بعض السياسات المقترحة للخروج منها. بل إن تقارير المؤسسات المالية الدولية وفى مقدمتها كل من مؤسستى واشنطن الشهيرتين واللتين تشيدان دائما بنجاح الإصلاحات الاقتصادية فى مصر، والتى كانت ترجمة أمينة لنصائحهما، لا تنكران أننا فى مصر مقدمون على شهور صعبة. إذا كان ذلك هو الحال الذى أصبح إجماع كل من يملكون معرفة صحيحة بالشأن الاقتصادى فى مصر، فما هى أسباب هذه الأزمة؟ وما هى سبل الخروج منها؟
ما هى الأزمة أولا؟
لتبسيط الأمور، ليست المسألة فقط ارتفاع أسعار الحبوب فى الأسواق الدولية بسبب الحرب الروسية الأوكرانية، ونحن بلا فخر أكبر دولة مستوردة للقمح فى العالم، ومصدرنا الرئيسى هو تحديدا هاتان الدولتان المتحاربتان، ولا يدِّعى أحد أن بمقدوره التنبؤ بموعد انتهاء هذه الحرب، والتى يقولون بشأنها إن الولايات المتحدة مصرة على استمرارها حتى مصرع آخر جندى أوكرانى، فأحد أعراض الأزمة لدينا هى ارتفاع مديونيتنا الخارجية، والتى تصاعدت كثيرا منذ سنة ٢٠١٩ بحسب بيانات البنك الدولى مما هو فى حدود ٩٨ مليار دولار إلى ما يتجاوز ١٣٧ مليار فى العام الحالى. الزيادة الهائلة هذه، بمقدار٤٤٪ إضافية عما كانت عليه من قبل لا علاقة لها لا بحرب أوكرانيا ولا بجائحة كوفيد. أكثر من نصف هذه الديون تتحملها الحكومة، وجانب كبير منها هو لتمويل خدمة الدين، أى أننا نقترض لسداد أصل ومعدلات الفائدة على الديون التى اقترضناها سابقا، وقسم منها (١٠٪ فى سنة ٢٠١٨) هو لتمويل مشترياتنا من الأسواق الأجنبية.
الحكومة هى المسئولة عن زيادة حجم هذه المديونية والتى تصل خدمتها فى العام الحالى إلى ما يقرب من ٢٠ مليار دولار. طبعا يحتاج الأمر إلى إعمال الكثير من الخيال لكى نصدق أن السبب فى هذه المديونية والتى تصاعدت منذ سنة ٢٠١٩ هو ثورة يناير ــ فبراير ٢٠١١، علما بأن الذين دعوا إلى هذه الثورة، وحتى الذين اتهموا بأنهم ركبوا موجتها، هم جميعا فى السجون الآن. والفريق الأول منهم كان يكره ممارسة السلطة حتى عندما دعى بعضهم للانضمام إلى الحكومة كوزراء. تحديد المسئولية عن زيادة المديونية هو أمر هام للبحث عن سبل للخروج منها، وذلك بصرف النظر عما إذا كانت أسباب اللجوء إلى هذه القروض حكيمة أو غير حكيمة.
البعد الثانى فى الأزمة هو المديونية الداخلية للحكومة. حكومتنا ليست مديونة للخارج فقط: لدول أجنبية وعربية ولمؤسسات عالمية وبنوك دولية، ولكنها مديونية أيضا للشعب المصرى، فنفقاتها تتجاوز كثيرا إيراداتها، وهى تحصل على تمويل هذا العجز بزيادة الضرائب والرسوم، وكذلك بدعوة المواطنين لشراء السندات التى تطرحها بنوكها. والعجز فى هذه المديونية الداخلية يبلغ فى مشروع الميزانية للعام المالى القادم ٥٥٨ مليون دولار، وزاد بمقدار 1,14 % عما كان عليه الحال فى العام السابق ٢٠٢١ــ٢٠٢٢. مبتلعًا ما قيمته ٧.٩٪ من الناتج المحلى الإجمالى. والجدير بالذكر أيضا أنه كما تقترض الحكومة من الخارج لسداد ديونها السابقة، فهى تقترض أيضا من الداخل لسداد ديونها المحلية أيضا، ويشكل ما تخصصه الميزانية لسداد الديون السابقة نحو ثلث نفقاتها.
ومع كل هذا الإنفاق الحكومى فى الخارج والداخل، وهذا هو الأمر الذى يهمكم أعزائى القراء، فإن نسبة الفقراء فى مصر إلى إجمالى السكان لا تقل عن ٢٩.٧٪ من إجمالى السكان، أى ما يقرب من ٣١ مليون إنسان يعيشون تحت خط الفقر، أى لا يملكون من الدخل ما يمكنهم من إشباع أبسط متطلبات البقاء على الحياة من مأكل وملبس ومسكن، ناهيك عن التعليم والرعاية الصحية. وبالنسبة لمن هم فوق خط الفقر فعليهم مواجهة الارتفاع فى نفقة المعيشة، ويقدر خبراء البنك الدولى أن معدل التضخم فى سنة ٢٠٢٢ سيتجاوز تنبؤات البنك المركزى ليصل إلى ١٠٪.
ولكن مع هذه المديونية الخارجية والداخلية، ومع معدلات الفقر المرتفعة، هل أصبح الاقتصاد المصرى يسير على طريق التنمية؟. التنمية الاقتصادية تعنى ببساطة أن ننتقل من اقتصاد يعتمد على إنتاج وتصدير المواد الأولية، وأن يصبح مصدرا للبضائع المصنوعة والخدمات الإنتاجية. ليس هذا هو الحال فأكبر قطاعات الاقتصاد توليدا للدخل هى النفط والغاز الطبيعى ويليها التشييد ثم تأتى الصناعة فى المحل الثالث بفارق كبير وتتبعها الزراعة، ولا تتجاوز مساهمة الصناعة ١٥٪ من إجمالى الناتج المحلى الإجمالى.
ما هو المخرج؟
بكل تأكيد سيواجه الاقتصاد المصرى تحديات جمة خلال العامين القادمين، وتنعكس هذه التحديات على مستويات العمالة والدخل والمعيشة للأغلبية الساحقة من المواطنين، ولكن لا أحد يتصور انهيار هذا الاقتصاد أمام هذه التحديات، على العكس، الدراسات المتوافرة من مؤسسات عديدة تشير إلى أن الاقتصاد المصرى سيكون قادرا على استمرار النمو، ولكن بمعدلات أبطأ. تنبؤات البنك الدولى تشير إلى أن معدل النمو فى سنة ٢٠٢١ هو ٢٪، يرتفع إلى ٥.٤٪ فى سنة ٢٠٢٢، وينخفض إلى ٤.٩٪ فى سنة ٢٠٢٣.
البنك الدولى لا يتحدث عن نمط النمو المتوقع، وفى الغالب لن يختلف كثيرا عن نمط النمو الذى عرفناه فى السنوات الأخيرة، وهو نمو فى قطاعات التشييد والاتصالات والنقل والخدمات فى الفنادق والمطاعم، دون نقلة حقيقية فى الصناعة التحويلية أو الزراعة ودون انخفاض فى معدلات الفقر أو زيادة فى فرص العمالة المنتجة على حساب زيادة العمالة قليلة الإنتاجية والدخل فى القطاع غير الرسمى.
وإذا كانت حصيلة السياسة الاقتصادية طوال السنوات الثمانى الماضية هى الابتعاد عن مسار التنمية الصحيحة لصالح ما يسمى بالمشروعات القومية فى مجال البنية الأساسية، وبعضها بكل تأكيد مفيد فى توفير الطاقة الكهربائية وتسهيل النقل ودعم وسائل الاتصال، إلا أن استمرار نفس النمط لا يمكن أن يؤدى إلا إلى المزيد من المديونية الخارجية والداخلية، والتى لا يمكن التقليل منها إلا بتوسيع الطاقة الإنتاجية للاقتصاد وزيادة صادراته السلعية ومن الخدمات الإنتاجية. لا يمكن لنا أن نتصور أن نصل إلى نتائج مختلفة عما انتهينا إليه إذا كنا سنواصل نفس السياسات التى أنتجت الأزمة التى نعيشها.
ولا توحى وثيقة ملكية الدولة التى طرحت الحكومة مشروعها بأننا سننتقل إلى مسار التنمية الصحيح. الوثيقة هى أقرب إلى الهرب إلى الأمام كما يقولون، فالخليط من تدخل مؤسسات الدولة فى الاقتصاد والاعتماد على مشروعات البنية الأساسية والذى ساد طوال السنوات الثمانى الماضية يعقبه تبنِّى مقولات الليبرالية الجديدة بتخلى الدولة عن العديد من أدوارها الأساسية فى التخطيط للنمو المتوازن للاقتصاد وقيادة مسيرته بالتعاون مع كل من القطاع العام والقطاع الخاص المدنيين، وتتجاهل الوثيقة دروس تجارب التنمية الناجحة فى شرق آسيا من الصين إلى كوريا الجنوبية وحتى فيتنام، والتى كان وجود الدولة فيها أساسيا لدفع التنمية الصحيحة التى أصبحت معها هذه الدول أطرافا فاعلة فى الاقتصاد العالمى. وللتدليل فقط على اتساع الفجوة بيننا وبين هذه الدول التى يجب أن نتعلم منها تبلغ صادراتنا فى الوقت الحاضر أقل من ٥٪ من حجم صادرات كوريا الجنوبية التى تقترب من ٧٠٠ مليار دولار سنويا، وكلها من سلع مصنوعة بعضها إلكترونيات وخدمات إنتاجية وكلها ذات قيمة مضافة عالية. وفضلا على ذلك كله لا تقول لنا الوثيقة ما هى استراتيجية النمو التى ترسمها للاقتصاد المصرى، فضلا عن بيع كل أصوله أو معظمها لمستثمرين أجانب لا يهمهم سوى القفز على فرص الكسب السريع والمضمون فيه.
واجبنا إزاء التحديات الهائلة التى يواجهها الاقتصاد المصرى هو أن تتجنب الحكومة أولا إغراقه فى المزيد من الديون بقروض جديدة هائلة لإقامة مشروعات طموحة هى بكل تأكيد طريفة ولكنها ليست ذات أولوية ملحة للمواطنين ولا للاقتصاد، وأن تناقش مع المواطنين فى مناخ حر ومفتوح الاستراتيجية الكفيلة بوضعه أخيرا على طريق التنمية الإنسانية المستدامة التى تحقق لكل المواطنين فرص حياة لائقة.