عن مصاعب المرحلة الانتقالية وضرورة العمل على اختصارها
زياد بهاء الدين
آخر تحديث:
الثلاثاء 5 يوليه 2011 - 8:52 ص
بتوقيت القاهرة
أحد الدروس الرئيسية التى يمكن استخلاصها من أحداث مسرح البالون والتحرير يومى الثلاثاء والأربعاء الماضيين هو صعوبة استمرار البلد لفترة طويلة فى المرحلة الانتقالية التى تمر بها. فحالة الاحتقان السائدة فى البلد بسبب ظروف هذه المرحلة الاستثنائية تجعل الصدام لا مفر منه وترجح تكرار ذات المشهد الذى قد يمكن احتواؤه فى المرة المقبلة، وقد يخرج عن السيطرة. سبب ذلك أن المرحلة الانتقالية التى نمر بها تتميز بسمات خمس رئيسية.
السمة الأولى: أن هذه المرحلة تستند إلى وضع دستورى استثنائى بكل المعايير بسبب الأدوار المختلفة والمتداخلة التى يقوم بها المجلس الأعلى للقوات المسلحة رغما عنه منذ الحادى عشر من فبراير، وهى أدوار فرضها عليه الفراغ الدستورى الناجم عن إسقاط النظام وحل البرلمان. فقد ترتب على ذلك أن المجلس الأعلى يدير شئون البلاد (من خلال الحكومة التى اختارها) وله فى ذلك صلاحيات رئيس الجمهورية، وهو الجهة المختصة بالتشريع وفقا للإعلان الدستورى وله فى ذلك صلاحيات البرلمان، وأخيرا فهو يقوم بالجانب الأكبر من أعمال الأمن بدلا من الشرطة، وذلك كله فوق قيامه بواجبه الأصلى وهو حماية الوطن والحفاظ على سلامة أراضيه. الجمع بين هذه المهام الثلاث (تنفيذية وتشريعية وأمنية) لابد وأن يفرز مشاكل وتناقضات لأنه يتعارض مع مبدأ تعدد السلطات التى تنهض عليه فكرة الدولة الحديثة، وهو وضع لابد أن يستمر مادام بقينا فى المرحلة الانتقالية.
السمة الثانية لهذه المرحلة هو استمرار الفراغ الأمنى وعدم وضوح نهاية له. وقد بدا ذلك واضحا فى أعقاب أحداث مسرح البالون التى أعادتنا إلى نقطة البداية. الشرطة فى مواجهة الجماهير، واستخدام لوسائل عنف غير مبررة، وانعدام ثقة بين الأطراف، وبلطجية يمرحون فى الشوارع دون أن يقدر أحد على السيطرة عليهم.
المشكلة أن ما بذلته الحكومة ووزارة الداخلية من جهد خلال الأسابيع الماضية لإرجاع الشرطة إلى الشوارع لن يؤتى ثماره مادام اقتصر على الانتشار فى الطرقات والأكمنة دون أن يتطرق لإحداث تغيير جذرى فى العقيدة السائدة لدى الشرطة وفتح صفحة جديدة مع الشعب. وتحقيق هذه النقلة النوعية لن يكون ممكنا خلال المرحلة الانتقالية لأن القرارات الصعبة التى يلزم اتخاذها من أجل ذلك لن تقوم بها إلا حكومة منتخبة أو ذات شرعية ديمقراطية مستمدة من صناديق الانتخاب وليس من ميدان التحرير وحده.
أما السمة الثالثة للمرحلة الانتقالية فهى أن الحكومة ليست فى وضع ولا تمتلك الأدوات التى تمكنها من إدارة البلاد إدارة حاسمة وذلك بسبب فكرة خاطئة شاعت منذ تشكيلها بأنها حكومة تسيير أعمال يقودها مجموعة من التكنوقراط لا شأن لهم بالسياسية والتحزب، وبالتالى فليس مطلوبا منهم سوى إدارة الشئون اليومية للبلاد وتسيير أعمالها لحين انتهاء المرحلة الانتقالية. هذه فكرة خاطئة منذ البداية لأن المرحلة التى نمر بها شديدة الخطورة وهى التى تتشكل فيها ملامح الوطن لعقود وأجيال قادمة. المستقبل يتحدد الآن وليس غدا. والحكومة الحالية عليها اتخاذ القرارات اللازمة لذلك مهما كان وصفها. والمشكلة أن الحكومة ــ بسبب ما لصقها من وصف أنها حكومة تسيير الأعمال ــ ليس لديها الأدوات ولا شرعية اتخاذ القرارات الصعبة طويلة المدى ولن يتوافر لها ذلك إلا بانتهاء المرحلة الانتقالية وتعيين حكومة جديدة لها مطلق الصلاحيات وبيدها كل الأدوات التى تمكنها من إدارة البلاد والتخطيط لها على المدى الطويل. والذى أقصده بحكومة جديدة هنا لا يعنى تغيير الوجوه فتلك ليست القضية، بل قد تكون الحكومة القادمة من ذات الأشخاص. القضية هى أن يتغير أساس تعيين الحكومة فيصبح مستندا إلى اختيار الناس وبالتالى تصبح شرعيتها كاملة.
السمة الرابعة لهذه المرحلة هى عدم وضوح السياسة الاقتصادية التى تتبعها الحكومة، وتناقض التوجهات الرئيسية الصادرة عنها، وهذا الوضع لن يتغير أيضا إلا بانتهاء المرحلة الانتقالية لأنه عندئذ يمكن أن تكون للحكومة سياسة اقتصادية واضحة المعالم، يمينا أو يسارا أو وسطا، وموقف محدد ومتفق عليه بين الوزراء من السياسة الضريبية، ومن دور الدولة والقطاع الخاص، ومن مستقبل الاستثمار، ومن عدالة توزيع الفرص والموارد، وغير ذلك من أسس إدارة الاقتصاد التى يصعب أن يتم حسمها فى ظل حكومة انتقالية تسير الأعمال فقط.
وأخيرا فإن السمة الخامسة والأخيرة للمرحلة الصعبة التى نعيشها هى تراجع فكرة سيادة القانون، ليس من منظور القضاء الذى استمر فى القيام بدوره باستقلال حتى فى أصعب الظروف.
ما يعرض مبدأ سيادة القانون للخطر هو التدخل الإعلامى فيما هو منظور أمام المحاكم، والجو العام الذى يشجع الخروج على القانون دون تمييز بين المشروع وغير المشروع، والاستهانة بأمن المحاكم والقضاة، واعتياد الناس على التعايش مع فراغ أمنى. سيادة القانون ليست أثرا يترتب على وجود الشرطة فى الشوارع وإنما هى قبل كل شىء حالة نفسية وعقد اجتماعى يقبل به المواطنون فكرة القانون وارتفاعه فوق المصالح والاعتبارات الخاصة. وهذه الحالة النفسية لن تتوافر إلا بانتهاء المرحلة الانتقالية لأنها بطبيعتها مرحلة استثنائية ويتعارض استمرارها مع مبدأ سيادة القانون.
ولكن برغم مشاكل هذا الوضع الانتقالى الاستثنائى فإنه فى الوقت ذاته الطريق الوحيد الذى يمكن أن يقود إلى انتقال سلمى للسلطة ينتهى بانتخاب برلمان جديد، ورئيس جمهورية جديد، واختيار حكومة لديها شرعية كاملة، وانتقال مسئولية الحفاظ على الأمن إلى جهاز شرطة محل ثقة واحترام الشعب. على الجانب الإيجابى فإن المجلس الأعلى للقوات المسلحة قد أكد مرارا وتكرارا حرصه على الانتهاء من المرحلة الانتقالية وتسليم سلطاته الاستثنائية فى أقرب فرصة، وقراراته كلها تتجه إلى تحقيق ذلك. ولكن فى الجانب السلبى أن الوضع الحالى ينطوى على عدم وضوح لخريطة الطريق التى تحقق ذلك، بما يغذى الشائعات ويخلق التوجس. وفى الجانب السلبى أيضا أن هناك انقساما فى مواقف القوى التى كانت متحدة فى ميدان التحرير، وغياب تصور عام تجمع عليه القوى الوطنية بشأن عملية الانتقال السلمى للسلطة. بل الخطير أنه فى هذه الظروف، بدلا من أن تتحد تلك القوى السياسية وراء مشروع واضح يخرجنا من هذه الحالة الاستثنائية، فإذا بالتنافس السياسى يغلبنا والتحزب يسيطر على الساحة حتى بين الأحزاب الناشئة وتتراجع المصلحة العامة أمام الصراع على قضايا غير ذات أهمية وتصفية حسابات ليس وقتها الآن. وهكذا أضعنا وقتا ثمينا فى حوار حول دينية ومدنية الدولة، وجدل حول الدستور أولا أم ثانيا، ثم خلاف حول أسماء المشاركين فى الحوار الوطنى بدلا من الاهتمام بمضمونه. ضاع وقت ثمين كان الأجدر أن تتخذ فيه خطوات الخروج من الحالة الانتقالية قبل أن تفقد الجماهير ثقتها فى التغيير ورغبتها فى المشاركة وتعود تدريجيا للفرجة والتحسر على الفرصة الضائعة.
نحن اليوم بحاجة إلى اتفاق على عدة نقاط محددة: المبادئ العامة التوافقية التى يتضمنها الدستور القادم، وترتيب إجراء الانتخابات وإعداد الدستور، وتحديد سريع ونهائى لموعد وقواعد إجراء الانتخابات البرلمانية والرئاسية. هذه ثلاث نقاط ليست بالغة الصعوبة والاتفاق عليها ممكن بين القوى والأحزاب السياسية. بعد ذلك لتختلف الأحزاب ومرشحو الرئاسة والقوى السياسية كما تشاء، وليكن خلافهم على السياسات الاقتصادية والاجتماعية وعلى كل تفاصيل إدارة الدولة، وليكن الجدل والحوار فى وسائل الإعلام وفى المؤتمرات الجماهيرية وعلى المواقع الإلكترونية حول البرامج والرؤى المتنافسة لحكم البلاد. ولكن مجرد الاتفاق على الخروج سريعا من المرحلة الانتقالية وعلى الآليات المطلوبة لتحقيق ذلك سوف يعيد للناس الأمل والثقة، ويحد من التوتر السائد فى الشارع ويركز تفكيرنا نحو بناء المستقبل.