لاقينى على راس الجبل
تمارا الرفاعي
آخر تحديث:
الأربعاء 5 يوليه 2017 - 9:20 م
بتوقيت القاهرة
كانت أمى حين تغضب أحيانا منى أو من موقف عائلى، تردد أمام أفراد الأسرة «بدى روح أقعد لوحدى على راس الجبل ما شوف حدا ولا أحكى مع حدا». وكنت فى طفولتى أتخيل جبلا كالجبال التى كنت أراها فى أفلام كرتون فى التلفزيون، أو تلك التى كنت أقرأ عنها فى حكايات الأميرات. جبل أخضر أشجاره كثيفة، فى نصف الطريق إلى قمته نجد بيتا خشبيا تعيش فيه سيدة عجوز. أتخيل أمى تمشى بنشاط نحو القمة، خطواتها ضيقة وسريعة، ذراعاها ممدودتان على طرفى جسمها تلوحهما بجدية وكأنها فى عرض عسكرى، فلأمى طريقتها فى المشى والتى يصعب على الكثيرين مجاراتها فيها.
كنت أتخيل أمى تستريح عند السيدة العجوز فى بيتها فى الغابة، أستطيع أن أرى إبريق الشاى يغلى فوق موقد قديم. تجلس أمى مع العجوز حول طاولة مستديرة عليها مفرش ملون، وتحكى لها عن حاجتها إلى الهدوء. تستمع إليها السيدة دون أن تعلق على كلامها. تربت على يدها بعد أن تنتهيا من شرب الشاى وتودعها عند الباب حين يحين موعد إكمال الرحلة.
***
كثيرا ما توقفت بى القدرة على الخيال مع خروج أمى من بيت السيدة العجوز. لنقل أنها فعلا وصلت إلى قمة الجبل كما كانت تهددنا، ماذا يحدث بعد ذلك؟ هل تجلس على الأرض تنظر فى الأفق؟ لم أكن وقتها أعرف شيئا عن تمارين التأمل، والتى نتصورها على هيئة شخص جالس وهو متربع على الأرض، أمامه فسحة من الفضاء تسمح لخياله أن يمتد بحرية بين السحاب، فتصبح أنفاسه أعمق وأفكاره أوضح، ويبدأ بالتصالح مع ما تركه عند سفح الجبل. لكننى وقتها لم أكن مطلعة على تقنيات التأمل، فكنت أتخيل أمى واقفة تحت شجرة تتساءل عما يمكنها أن تفعله هناك ريثما تهدئ من غضبها.
***
أمى إنسانة اجتماعية تجذب الناس بحكمتها ورحابة صدرها، تحب المناسبات العائلية والاجتماعية وتفتخر بما يقال عنها، فهى مضيافة وتحب أن تعرف باستقبالها الدافئ للناس ومحبتها لهم وبسفرها العامرة أيضا. هى ليست كائنا يحب الوحدة، اللهم إلا حين تغضب فتتوق إلى رأس الجبل.
***
تذكرت أمى ورأس الجبل حين غضبت أنا من موقف مؤخرا، فتمنيت أن يختفى كل من حولى، بل وتخيلت فراغا أبيضا يحيط بى. ركزت تفكيرى فى مفهوم الفراغ والبياض الذى تحول فى مخيلتى إلى نور لا أرى من بعده شيئا. استخدمت تقنيات تعلمتها فى مرحلة لاحقة حين التحقت بدورات حول التأمل التصاعدى فتخيلت مكانا عاليا جلست فيه محاطة بالفراغ.
فجأة ظهرت أمى، وصلنى أولا صوتها الذى سألنى عن حالى وعن سبب جلوسى وحيدة. ثم أتتنى رائحتها، ذلك الخليط من عطرها ورائحة الفانيليا التى تستخدمها فى عجينة الكعك الذى لا يخلو بيتنا منه. وفى الأخير رأيت عينيها الرماديتين بما تحملانه من هدوء وتساؤل. ماذا تفعل أمى هنا، فى الفراغ؟ هذا هو إذا رأس الجبل الذى لطالما هددت بأنها سوف تذهب إليه وتتركنا حين تغضب؟
يختفى وجه أمى لكنها تترك وراءها بعضا من رائحتها. لحظات ويظهر وجه آخر. ماذا تفعل الخالة آمال هنا هى الأخرى؟ أسألها عن صحتها وصحة زوجها وفى الوقت ذاته أفكر فى ابنتها، صديقتى من أيام الدراسة، التى أسرت لى مرة أن والدتها، الخالة آمال، كانت تهددهم بأنها سوف تذهب إلى مكان بعيد لن يستطيعوا الوصول إليه. أهلا خالة آمال، نورتِ وحدتى وكشفتى سرى. تسألنى الخالة عن سبب جلوسى هناك، وتسأل عن حال أمى، صديقتها.
يبتعد صوت الخالة أمال ليحل مكانه صوت آخر، لا أتذكره فى البداية إنما هو يبدو لى مألوفا. هو صوت نادية صديقة أمى الأقدم، صديقتها من أيام المدرسة ثم فى السنوات الكثيرة التى تلت مرحلة مقاعد الدراسة. ها هى تقتحم عزلتى أيضا بأسئلتها الكثيرة، تسأل وتجيب بنفسها دون أن تنتظر تعليقى. هى فهمت القصة ووصلت إلى النتيجة دون حتى أن تحتاج إلى تعليق منى.
هذا هو إذا رأس الجبل الذى كثيرا ما تساءلت عن كيفية الوصول إليه. هو سر تعرفه الأمهات ولا تفشينه. هو مكان نهرب إليه بحثا عن صفاء الذهن وهدوء النفس. هو مكان يبدو أن مجموعة محددة من الناس فقط تجد طريقه. لذا، ففى جلسة مرة مع صديقة فى يوم وجدتها فيه، على غير عادتها، قلقة ومتوترة، سألتها إن كان هناك شيء أستطيع أن أفعله للتخفيف عنها. كلا، جاوبتنى، لا أريد شيئا سوى أن أذهب إلى مكان بعيد لا أرى فيه أحدا. ربما جبل عال لا أعرف كيف سأصل إلى قمته لكن لا يهم، أريد أن أجلس هناك وحدى فأصفى ما بداخلى وأتصالح مع نفسى.
***
«بتعرفى يا عنايات؟ لما تروحى لراس الجبل رح تلاقى أمى، وآمال ونادية وأخريات كثيرات»، أقول لها وأنا أفهم أخيرا أن رأس الجبل هو مكان فى داخلنا نغلق بابه على نفسنا ريثما نلتقط أنفاسنا التى قطعتها الأحداث والعواطف، والتى نحتاج إلى الهدوء الكامل كى نستعيدها. شششششش ابتعدوا عنى ريثما ألملم نفسى، أعيد ترتيب ملفات قلبى، أستجمع مبادئى التى أصبحت أشك فيها من فرط اضطرابى. «بتعرفى يا عنايات؟ المشكلة أنه لما تروحى لهنيك، ممكن جدا أنه تلاقينى على راس الجبل».