مركزية حق الإجهاض فى السياسة الأمريكية
محمد المنشاوي
آخر تحديث:
الخميس 5 يوليه 2018 - 8:50 م
بتوقيت القاهرة
جاء خبر عزم القاضى بالمحكمة الدستورية العليا أنتونى كينيدى (81 عاما) التنحى بنهاية هذا الصيف عن مقعده فى المحكمة بمثابة الصدمة للكثير من المعارضين للرئيس ترامب، ومثل خبرا سارا لترامب وأنصاره.
فالمحكمة المكونة من تسعة قضاة، يخدمون فيها مدى الحياة وذلك عقب اختيارهم من رئيس الدولة وتثبيت مجلس الشيوخ لهم بأغلبية 60 صوتا حال حدوث حالة فراغ إما لوفاة القاضى أو تنحيه عن العمل لأسباب خاصة به، إذا لا يمكن لأى جهة أن تنهى عمل أى قاضٍ بالمحكمة الدستورية العليا، وهو ما يضمن حدوث توازن بين السلطات.
ولعقود طويلة مثل القاضى أنتونى كينيدى كفة مرجحة فى قضايا هامة فى الحياة السياسية الأمريكية كان من أهمها قرار المحكمة تقنين زواج المثليين. وذلك بعدما أصبحت القرارات المصيرية للمحكمة تتخذ بأغلبية خمسة أصوات مقابل أربعة وهو ما يعكس استقطابا حادا فى الحياة السياسية الأمريكية.
ورغم تصنيف كينيدى بالميل للحزب والسياسات الجمهورية، إلا أنه وقف كحائط صلب ضد أى تشدد فى القضايا الاجتماعية خاصة ما يتعلق منها بحق الإجهاض والذى أقرته المحكمة العليا عام 1973 فى قضية تعرف باسم «رو ضد ويد» وأقرت المحكمة آنذاك أن الإجهاض شأن شخصى لا يحق للدولة التدخل فيه شريطة أن يحصل ذلك قبل حلول الأسبوع الرابع والعشرين من الحمل.
***
ومنذ وصول ترامب للحكم قبل أكثر من عام ونصف، يتبنى الرئيس سياسة شعبوية تلمس العواطف بدلا من العقول. وعلى الرغم من أن دستور الولايات المتحدة يُعد وثيقة علمانية بامتياز تبدأ بعبارة «نحن الشعب»، ولا تحتوى الوثيقة على أى ذكر لكلمة الرب أو المسيحية، بل إن الإشارة إلى كلمة دين فى الدستور استخدمت على نحو معاكس تماما للتأكيد على عدم التمييز بين المواطنين على أساس عقائدهم، إلا أن ترامب وأنصاره يتأهبون لخوض معركة تسمية قاض محافظ متشدد للمحكمة الدستورية العليا فى إطار سعيها لتحقيق هدف استراتيجى يتمثل فى تبديل أو إلغاء قرار المحكمة بقانونية الإجهاض.
ويؤمن التيار الشعبى الواسع المؤيد لسياسات ترامب أن هناك صحوة دينية داخل أمريكا يصاحبها دعوات لدور متنامٍ للدين «المسيحى» فى المجتمع، وهو ما يمثل انعكاسا أو صدى لأفكار فريق كبير من الأمريكيين الذين يقطن أغلبهم المناطق الريفية أو الجنوب الأمريكى.
وشخصيا أرصد منذ شهور داخل واشنطن وضواحيها ظاهرة مؤخرا تتمثل فى زيادة المظاهرات الصغيرة المناوئة للإجهاض، والمؤيدة لحق الجنين فى الحياة. وأعاد خبر تنحى القاضى كينيدى القضية لتتصدر مجالات النقاش على مختلف المستويات السياسية والقانونية.
ولا يدعم أنصار هذا التيار المندد بحق الإجهاض هذه القضية على خلفية دينية فقط، بل تمتد مطالب هذا التيار لتحقيق سياسات تخرج كلها من نفس عباءة السياسات المنضوية تحت أجندة دينية محافظة.
***
يؤمن المعارضون لحق الإجهاض بصحة قرار الرئيس ترامب بالاعتراف بالقدس عاصمة لإسرائيل وبنقل السفارة الأمريكية لها بناء على معتقدات دينية تعتقد بضرورة عودة الشعب اليهودى إلى أرضه الموعودة فى فلسطين، كل فلسطين، وإقامة كيان يهودى فيها يمهد للعودة الثانية للمسيح وتأسيسه لمملكة الألف عام.
ويؤمن أنصار هذا التيار كذلك بضرورة التدخل الحكومى من أجل «ضبط تدريس نظرية النشوء والارتقاء»، وهى النظرية التى وضعها العالم داروين فى عام 1859 والتى تقول بأن الانتقاء الطبيعى هو السبب فى وجود الحياة والكائنات. وفى المقابل يتبنى المتدينون من أنصار تجريم الإجهاض نظرية أخرى تعتمد بشكل أو بآخر على الرواية التوراتية لخلق الكون والإنسان يطلقون عليها نظرية التصميم أو التكوين الذكى، وهى تعارض نظرية دارون وتفترض أن هذا الكون بالغ التعقيد لابد وأن يكون وراء تصميمه صانع ماهر أو خالق.
كذلك يؤمن أنصار هذا التيار بضرورة التشدد فى وجه الهجرة واللجوء للولايات المتحدة. فقد استخدم وزير العدل جيف سيشنز، أحد أبرز وجوه هذا التيار فى إدارة ترامب، نصا من الإنجيل للدفاع عن سياسات إدارة ترامب للفصل بين أطفال المهاجرين وعائلاتهم، على الحدود بين الولايات المتحدة والمكسيك الشهر الماضى. وأشار سيشنز للقديس بولس وتشديده على ضرورة احترام القوانين التى تضعها الحكومة، «لأن الرب استخلفها لخدمته». وهكذا أشار وزير العدل، والذى يؤيد إلغاء حق الإجهاض، أن الله يدعم سياسات إدارة ترامب تجاه المهاجرين.
***
فى ثالث أيام دونالد ترامب فى البيت الأبيض، وقع الرئيس الجديد مرسوما رئاسيا يحظر التمويل الأمريكى للمؤسسات الأجنبية التى تعمل فى مجال الإجهاض كوسيلة لتنظيم الأسرة. ثم صرح ترامب فى عدة مناسبات أنه لن يمنع الإجهاض فى أمريكا، لكن القرار أدى إلى حالة واسعة من انتقادات منظمات حقوق المرأة فى أمريكا التى دعمها رغبة ترامب فى وضع قيود على التمتع بحق الاجهاض ضمن البرامج الصحية التى تشرف عليها الدولة.
وزاد من مخاوف الكثيرين تجاه ترامب لتسمية قاض جديد للمحكمة الدستورية من المحافظين بدون شك. كذلك يضاعف من المخاوف قُرب تنحى بعض القضاة الآخرين ممن يخدمون حاليا فى المحكمة الدستورية العليا ويحسبون على التيار الليبرالى المؤيد لحقوق المرأة، مثل القاضية روث جينسبورج التى تبلغ حاليا 85 عاما، والقاضى ستيفن براير الذى سيبلغ 80 عاما الشهر المقبل.
منذ حصول النساء الأمريكيات على دستورية حق الاجهاض بانتصارهم الكبير عام 1973 أمام المحكمة الدستورية العليا، تم تقديم عدد من الطعون على هذا القانون، قوبلت كلها بالرفض حتى الآن. فقط تم إدخال العديد من القوانين المنظمة لحكم المحكمة بتقنين الإجهاض، إلا أننا على ما يبدو سنشهد معركة متجددة على يد ترامب الذى لا يتردد فى الدفع بسياسات تزيد من ولاء قاعدة الناخبين المحافظين المتدينين له ولحزبه الترامبى، الجمهورى سابقا.