حمدى أبو جليل كطفل تعلم المشى حديثا
هشام أصلان
آخر تحديث:
الجمعة 5 يوليه 2024 - 8:30 م
بتوقيت القاهرة
عند مدخل بيتنا القديم، تتوقف سيارة نقل صغيرة لينزل منها والدى وشاب بشعر هائش، معهما منضدة حاسب آلى، تقترب فى حجمها من منضدة طعام صغيرة، ورأيت الشاب يحملها على كتفه بسهولة ليصعد بها الأدوار الثلاثة، واندهشت. كنت مهتمًا فى ذلك الزمن البعيد برياضة بناء العضلات، وسألت أبى عن كيف فعلها الشاب.
قال: «حمدى كان بيشتغل فى الفاعل، بيشيل طوب ورمل وزلط ويطلع بيها العمارات اللى بتتبنى».. هكذا تأتينى ذكرى أول مرة رأيت فيها حمدى أبو جليل، الكاتب المهم والصديق العزيز. ستتوطد العلاقة معه فى ذلك السياق العائلى؛ حيث كان يعمل مع والدى فى سلسلة «آفاق الكتابة»، التى انتهت حكايتها مع الأزمة الشهيرة لرواية «وليمة لأعشاب البحر».
لم تكن الحياة الثقافية وقتها بين اهتماماتى، ولم أكن قد تعرفت عليه أدبيًا. هو شاب يعمل مع والدى ويحبه بجنون وصار كأنه أحد أفراد الأسرة. وقبل أيام مرت، بسرعة البرق، سنة على رحيله المفاجئ والمروع بغير مجال للمجاز فى الكلمة. بعد سنوات من لقائنا الأول، وحين بدأت العمل فى الثقافة والصحافة، سيكون «الفاعل» قد أصبح عنوان روايته الجديدة، وستكون جلسة حديث طويل حولها بداية جديدة ومختلفة لصداقتنا، اندهش كل منا برؤيته زاوية جديدة للآخر لم يكن يعرفها قبل ذلك. كان هو قد تحقق أدبيًا بشكل كبير، وكنت أخطو خطوتى الأولى باتجاه وعى جديد. أحببته ككاتب مهم، وكصديق أختلف مع معالجته لبعض أمور الحياة، ولا نلتقى سوى على حالات هيسترية من ضحك لا يتوقف.
لم تكن «الفاعل» أكثر ما أعجبنى بين ما كتب، أحببت أكثر روايته الأولى «لصوص متقاعدون»، غير أن «الفاعل» كانت الرواية التى انطلق منها حمدى يشرح للعالم مفاهيمه عن الكتابة ويدافع عنها، ذلك أنها أحدثت جدلًا فى تلقيها، وسؤال كبير حول حدود المسموح لاستخدام الواقع فى العمل الروائى والمسافة بينه وبين الخيال وضرورته، ومتى تسقط عن العمل الروائى صفته الفنية. هو أحد أسئلة الكتابة الكبيرة والمعروفة تاريخيًا، غير أنه كان متجليًا فى حالة «الفاعل»، وذلك نظرًا لسطوع الواقع فيها الذى سيتعرف عليه أى قارئ ببساطة بالغة.
هنا بطل روائى يحمل اسم الكاتب بالكامل، ويعمل فى مهنته السابقة «فواعلى»، فيما شخوص الرواية هم شخوص محيط الكاتب بدون أية تورية، والحكاية هى حكاية الكاتب التى يعرفها جميع من تابعه منذ بداياته، لا توجد أى مساحة للخيال، قالوا له إنها سيرة ذاتية واضحة، بينما كان يصر على أنها عمل روائى صرف بمفهومه عن فن الرواية، الذى لا يحتاج فيما يتصور أبو جليل إلى لجوء الكاتب لغير حياته الشخصية، بل إن تلك الحياة هى ما يحتاج لحكيه إن اعترف بـ«الاحتياج» كأحد الشروط الرئيسية لتكوين كاتب حقيقى يعانى من أجل معالجة عالمه الأصيل أدبيًا ومشاركة آخرين هذا العالم، كان يرى أنه لا يوجد تعريف وحيد للرواية، بل إنه لا يوجد ما يسمى «الرواية» فى المطلق، بل هناك ما يسمى «رواية فلان».
وربما أن صدق حمدى أبو جليل فى طرح مفهومه بجرأة بالغة وبإصرار، هو ما ساعد، بجانب موهبته الكبيرة، فى تكريسه ككاتب مهم، واسم لا يمر مرور الكرام وإن اختلفت معه، ليس الصدق فقط فيما يخص تصوراته، لكنه الصدق فيما يخص استغراقك فى عالمك من ناحية والتأصيل لمفهومك من ناحية أخرى، ما وضع حمدى على مقعد شيخ طريقة، قد تختلف معها لكن لا مفر من الاعتراف بأنها طريقة ولها شيخ. ولم تكن «الفاعل» هى الرواية الوحيدة التى لعب فيها لعبة التجريب، لكنها الرواية التى أتاحت له التعبير ببراح عن مفاهيمه ومهدت له التلقى العام وتعامل معه المهتمون باعتباره كاتب مُجرِب، ذلك أن الاهتمام الصحفى والنقدى بها فتح له مساحات الكلام، خصوصًا مع فوزها بجائزة نجيب محفوظ من الجامعة الأمريكية.
أصدر حمدى أبو جليل عدد من الأعمال الأدبية منها، إضافة إلى روايتى «لصوص متقاعدون» و«الفاعل»، منها مجموعات قصصية مثل «أسراب النمل» و«أشياء مطوية بعناية فائقة» و«طى الخيام»، وراوية «قيام وانهيار الصاد شين»، وكتابى «القاهرة.. شوارع وحكايات» و«القاهرة.. جوامع وحكايات»، فضلًا عن روايته الأخيرة «ديك أمى»، والتى صدرت بعد أيام من وفاته فى حفل إطلاق ضخم أقامته دار الشروق بحضور أسرته وأصدقائه ومحبيه.
وزعت فيه «الشروق» نُسخًا مجانية من الرواية على الحضور، فيما ختم ابنه النُسخ بختم يحمل توقيع والده. كان يومًا مشحونًا بالابتسام الحزين. هل كان علىَّ أن أتحدث عن حمدى بجدية؟ لا أعرف إن كنت نجحت. هذه مسألة صعبة ولم أفعلها من قبل، ولا أتصورها سهلة على أحد من أصدقائه. الرجل الذى رأيته ذات ليلة يرقص مثل طفل تعلم المشى حديثًا بينما يخلب أعين من حوله بمنحة إلهية من الحضور، والضاحك على العالم فى أعلى لحظات الجدية محولًا إياها إلى مسخرة، لا يليق به الرثاء الجاد. ما هذه الحيرة التى أوقعتنا فيها يا صديقى؟ ما كل هذا الحزن والجنون؟ هكذا، وكما عاش يفصح عن كل ما يشعر به أو يفكر فيه دون الالتفات لتبعاته على الآخرين، أفصح عن موته ببساطة.