نجيب محفوظ وثورة 23 يوليو
رشيد العناني
آخر تحديث:
الخميس 5 أغسطس 2010 - 11:41 ص
بتوقيت القاهرة
تنتعش فى الذاكرة هذه الأيام ذكرى ثورة 23 يوليو 1952، وزعيمها التاريخى جمال عبدالناصر. تنتعش ذكراها لدى جيلنا الذى نشأ فى عهدها وعاين انتصاراتها وانكساراتها. إلا أن هذه الذكرى لا تعدو أن تكون تاريخا ماضيا لدى الأجيال الأحدث عهدا من كاتب هذه السطور، فمصريو اليوم الذين فى الأربعينات من عمرهم قد ولدوا بعد وفاة عبدالناصر، والذين ناهزوا الثلاثين من عمرهم قد ولدوا بعد اغتيال أنور السادات، أما من هم أصغر من ذلك فهم من مواليد زمن الرئيس مبارك.
وبينما يستطيع جيلى أن يستحضر فى الذاكرة سمات العهود الثلاثة استحضار المعاصرة والمعايشة، ويستطيع المقارنة والمفاضلة، فإن جيل اليوم لا يعرف عن ثورة 52 إلا ما يحكيه له الكبار، وما يطالعه فى كتب التاريخ الذى لم يُكتب حق الكتابة بعد ولمّا يمضى من الزمن بعد ما يكفى للتقويم المحايد.
لا أدرى كيف تفكر أجيال اليوم فى تلك الثورة التى يسمعون ويقرأون عنها، ولكن الذى لا شك فيه هو أننا جميعا نعيش تداعيات عصرها، وأن سمات المجتمع المصرى اليوم بسلبياته وإيجابياته، وتركيبة الدولة وأجهزتها بما نكره فيها وما نحب هى كلها من مجمل الإرث المباشر أو غير المباشر لثورة 1952 بإنجازاتها وإخفاقاتها، وكلاهما كثير. أحدثت تلك الثورة انقطاعا جذريا فى بنيان المجتمع المصرى بين ما كان قبلها وما أتت به، حتى إنى لا أظن أن شيئا مما نعيش إياه اليوم يمكن ردّه إلى مصر النصف الأول من القرن العشرين.
بعدت الشقة بيننا وبين ذلك العهد بأسلوب حياته وقيمه، وكأنه جزء من تاريخ مصر القديمة، وليس تاريخها المعاصر قبل ستين عاما لا غير. واليوم تبدو استعادة شىء من قيمه أو روحه أو تطلعاته أمرا لا يقلّ إمعانا فى الخيال عن التطلع إلى بناء الأهرامات أو معبد الكرنك من جديد.
إلا أنى لا أريد أن أسترسل فى تأملاتى الخاصة عن ثورة 52 وإنما أريد أن أترك المجال لمن شهادته أهم من شهادتى. أريد أن أفسح مجال القول لنجيب محفوظ، ضمير مصر المعاصرة، والشاهد على قرنها العشرين من مطالعه وحتى وفاته فى مطالع القرن الحادى والعشرين.
عايش ثورة يوليو وما قبلها وما بعدها، وسجل كل هذا مرة بعد المرة فى كتاباته منذ الستينيات فصاعدا. ولعل كتابه «أمام العرش: حوار مع رجال مصر من مينا حتى أنور السادات» المنشور سنة 1983 بعد موت عبد الناصر بنحو من 13 عاما ومضى سنتان على مصرع السادات، رجلا ثورة 52 اللذان تبوآ سدة الحكم فى مصر، إن شئنا أن نتجاهل تكتيكيا محمد نجيب. كتبت عن ذلك العمل عقب صدوره ما أجده مناسبا أن أعود فأشرك قارئ اليوم فى بعضه.
العرش الذى يقف أمامه حكام مصر هو عرش «أوزوريس»، رب العالم السفلى ورئيس المحكمة الأخروية التى تزن أعمال الناس ثم تبرئهم أو تدينهم حسب الأساطير المصرية القديمة. تعتمد المحكمة فى عملها التسلسل التاريخى، فتبتدئ بالملك مينا، أعظم ملوك الأسرة الأولى، وأول من وحدّ شمالى مصر وجنوبيها فى مملكة واحدة، وتتدرج هبوطا حتى تصل إلى النظر فى أمر السادات.
تتبع هذه المحكمة الأخروية تقليدا لا وجود له فى محاكمنا الدنيوية. ذلك أن الحاكم الذى تُبرأ ساحته، يُسمح له أن يحتلّ مقعده بين الخالدين فى قاعة المحكمة، ويصبح من حقه أن يدلى برأيه حمدا أو ذمّا فى أفعال من تلاه من الملوك والحكام. ولسوف أتجاوز هنا عن مجمل الكتاب، وأركز على تقويم محفوظ لعملاقى ثورة يوليو: عبد الناصر والسادات.
يدخرّ محفوظ بعضا من ألذع نقده لعبدالناصر، وإن كان يسبغ عليه أيضا من آيات الحمد والثناء الشىء الكثير. فنرى رمسيس الثانى، أعظم فراعين مصر قاطبة يقرن عبدالناصر بذاته فى العظمة فيقول له: «كلانا يشعّ عظمة تملأ الوطن وتتجاوز الحدود». ولكنه أيضا يقرنه بذاته فيما هو ليس من العظمة فى شىء: «...وكلانا لم يقنع بأعماله المجيدة الخالدة، فأغار على أعمال الآخرين ممن سبقوه».
وهو اعتراف من رمسيس الثانى بما صنع من محو أسماء سابقيه من على المعابد والمسلات ووضع اسمه محلها. وهو أيضا تعريض بما كان فى عهد عبدالناصر من إغفال حق ثورة 1919 وزعامة سعد زغلول وكفاح حزب الوفد من بعده برئاسة مصطفى النحّاس. هذا طبعا إلى جانب إغفال الحق التاريخى لمحمد على فى تأسيس مصر الحديثة.
ويستمر الفراعين القدامى فى توبيخ الفرعون الحديث فيقول له تحتمس الثالث: «على الرغم من نشأتك العسكرية فقد أثبتّ قدرة فائقة فى كثير من المجالات إلا العسكرية...» وهذه طبعا إشارة واضحة للهزائم العسكرية العديدة فى عهد عبدالناصر سواء فى حرب السويس أو حرب 1967 أو الفشل فى مواجهة الانقلاب السورى سنة 1961 أو الخسائر الفادحة فى حرب اليمن.
ويواصل زعماء مصر المحدثون ما بدأه أسلافهم الفراعنة، فيلوم سعد زغلول عبد الناصر على حكمه الاستبدادى، إلا أن أمرّ النقد يأتى على لسان مصطفى النحاس. وهو توزيع للأدوار موفق من ناحية محفوظ. فالنحاس هو الزعيم الشعبى الذى خلعه عبدالناصر من على عرشه وقذف به فى الظل وكأنه لم يكن زعيم النضال الوطنى فى لما يربو على عشرين عاما. ينفجر النحاس فيه قائلا: «أغفلتَ الحرية وحقوق الإنسان، ولا أنكر أنك كنت أمانا للفقراء، ولكنك كنت وبالا على أهل الرأى والمثقفين وهم طليعة أبناء الأمة، انهلت عليهم اعتقالا وسجنا وشنقا وقتلا حتى أذللت كرامتهم وأهنت إنسانيتهم... أولئك الذين جعلت منهم ثورة 19 أهل المبادرة والإبداع فى شتى المناشط السياسية والاقتصادية والثقافية...»
«ليتك تواضعت فى طموحك.. إن تنمية القرية المصرية أهم من تبنى ثورات العالم. إن تشجيع البحث العلمى أهم من حملة اليمن، ومكافحة الأمية أهم من مكافحة الإمبريالية العالمية. وا أسفاه لقد ضيعت على الوطن فرصة لم تُتح له من قبل..».
ولا نملك هنا إلا أن نحسّ بنبضات قلب محفوظ فى هذه الكلمات، بالمرارة التى يستشعرها كاتب وطنى كان يؤمل الكثير فى ثورة 52 لكن أمله خاب، مرارة المثقف الليبرالى الذى عاصر خنق الحرية بيد من كان يُؤمل به خلاصها. ومن هنا نلمس تردد أوزوريس قاضى الآخرة قبل تزكية عبدالناصر للانضمام للخالدين: «...قليلون من قدّموا لبلادهم مثلما قدمت من خدمات، وقليلون من أنزلوا بها مثلما أنزلت من إساءات..».
وأخيرا يأتى دور السادات للمثول أمام العرش. ولنلاحظ على الفور أن محاكمته أهون بكثير من محاكمة عبدالناصر، وأن الآراء لا تتضارب فى مصيره كما حدث مع سلفه، وأن أغلب النقد الذى يُوجّه إليه يأتى من عبدالناصر نفسه. وفى النهاية يحتل مجلسه بيسر بالغ بين الخالدين.
يقول له عبدالناصر معاتبا: «كيف هان عليك أن تقف من ذكراى ذلك الموقف الغادر؟» فيرد السادات: «اتخذت ذلك الموقف مضطرا إذ قامت سياستى فى جوهرها على تصحيح الأخطاء التى ورثتها عن عهدك.» ويحاسبه عبدالناصر مرة أخرى على سياسته العربية التى قضت على مصر بالانعزال والغربة، فيدفع السادات التهمة عن نفسه قائلا: «لقد ورثت عنك وطنا يترنح على هاوية الفناء، ولم يمدّ لى العرب يدَ عوْن صادقة، ووضح لى أنهم لا يرغبون فى قوّتنا كى نظل راكعين تحت رحمتهم، فلم أتردد فى اتخاذ قرارى».
ويلومه النحاس قائلا: «سمعتُ عن دعوتك إلى الديمقراطية فدُهشت، ثم تبين لى أنك تريد حكما ديمقراطيا تمارس على رأسه سلطاتك الديكتاتورية!» فيرد السادات بعبارته التى لم يملّ ترديدها فى حياته: «أردت ديمقراطية ترعى للقرية آدابها وللأبوة حقوقها». وهكذا حتى ترحب به المحكمة بين الخالدين من أبناء مصر.
يبدو تقويم محفوظ لشخصى عبدالناصر والسادات وأضرار سياساتهما راجحا فى جانب الأخير. وإن كان السادات وعصره يلقى تقويما أقل تعاطفا فى رواية أخرى لمحفوظ نُشرت بعد «أمام العرش» بسنتين، هى «يوم قُتل الزعيم» (1985).
أدلى محفوظ بشهادته ومضى. أما نحن الباقين ومن بعدنا، ليس مصريين فقط وإنما من سائر المنطقة، فسنظل ويظلون لزمن طويل يعيشون فى ظل تداعيات ثورة يوليو 1952.
relenany@hotmail.com