ما دور المفكرين فى الثورات المصرية؟
جلال أمين
آخر تحديث:
الثلاثاء 5 أغسطس 2014 - 7:40 ص
بتوقيت القاهرة
عبرت فى مقال سابق (بجريدة الشروق 29/7) عن شكوك قوية فى الدور الذى ينسب للمفكرين فى قيام الثورات، وفى نجاحها وفشلها. ضربت مثلين لتأييد هذه الشكوك: الثورة الفرنسية التى قامت منذ أكثر من قرنين، والثورة الروسية التى قامت منذ قرن. ففى الحالين قد يكون للمفكرين أثر فيما رفعته الثورتان من شعارات وما أعلنته كل منهما عند قيامها من مبادئ، ولكن الذى تحقق على أرض الواقع، فى الحالين كان بعيدا جدا عما كان فى أذهان المفكرين. وأريد الآن أن أضرب مثلين من مصر، يتعلقان بالثورتين المصريتين فى القرن العشرين، ثورة 1919 وثورة 1952، على أن أتناول فى مقال لاحق ثورة 25 يناير 2011 وما تلاها.
لا يمكن أن ننكر أى أثر للمفكرين المصريين فى خروج الجماهير المصرية إلى الشوارع فى الثورة الأولى (1919) وفى تأييد جمهور واسع من المصريين للثورة الثانية (1952)، حتى ممن لم يخرج منهم إلى الشارع. لا يمكن مثلا إنكار تأثر ثوار 1919 بأفكار مصلحين سياسيين واجتماعيين مثل الشيخ محمد عبده وقاسم أمين ولطفى السيد، وقد نضيف مصطفى كامل وسعد زغلول وإن كان هذان الأخيران أقرب إلى المناضلين السياسيين منهم إلى المفكرين. لابد أن هؤلاء المفكرين قد رسخوا فى أذهان المصريين فكرة الاستقلال وكراهية الاحتلال الإنجليزى، ولابد أن يكون هذا قد ساهم أيضا فى كل من كتب فى الصحف والمجلات فى التنديد بما فعله الإنجليز فى مأساة دنشواى سنة 1906. وما دمنا قد اعترفنا بذلك فلابد أن ننسب إلى هؤلاء المفكرين والكتاب بعض الفضل أيضا فى حصول مصر على تصريح فبراير 1922 من إنجلترا، الذى أعطى مصر بعض مظاهر الاستقلال، وعلى دستور رائع فى 1923، إذ لم يكن لمصر على الأرجح أن تحصل على هذا الدستور ولا ذلك التصريح لولا ثورة 1919.
ولكن انظر ما الذى حدث من ذلك، خلال العقود الثلاثة التى انقضت بين ثورة 1919 وثورة 1952 لم يكن التاريخ المصرى فى هذه العقود الثلاثة شرا كله، بل لقد شهد بعض الأشياء الرائعة التى لابد أنها تأثرت أيضا بالمفكرين السابقين والمعاصرين. كانت تجربة طلعت حرب فى العشرينيات والثلاثينيات فى تصنيع مصر من هذه الأشياء الرائعة، كما ان تطور الثقافة المصرية فى تلك الفترة، فى مختلف الفروع، فى الأدب والمسرح والسينما والموسيقى، كان مدينا بالطبع للرواد الأوائل للفكر المصرى. ولكن إلى أى مدى تحقق الاستقلال السياسى (أو حتى الجلاء) والتقدم الاقتصادى اللذان كان يأمل فيهما ثوار 1919؟ نحن نعرف جيدا حالة مصر عندما قامت ثورة 1952، من حيث الركود السياسى، وتتابع أحزاب الأقلية على حكم مصر، والاستهتار بالدستور من أجل تمكين هذه الأحزاب من الحكم بالتعاون مع القصر الملكى والإنجليز. ونحن نعرف أيضا مدى التخلف الاقتصادى قبيل ثورة 1952 وشيوع الأمية...إلخ. الذى يمكن ان نتصور أن يكون عليه شعور مفكر كالشيخ محمد عبده، أو قاسم أمين، بالإضافة إلى مصطفى كامل وسعد زغلول، لو كانوا قد عاشوا ليروا حال مصر قبيل 1952؟ أو شعور لطفى السيد الذى عاش بالفعل حتى رأى تلك الحال؟
•••
عندما سئل جمال عبدالناصر، بعد قيام صورة 1952، عن المفكرين المصريين الذين ساهموا فى تكوين أفكاره ومن ثم فى قرار القيام بالثورة، ذكر كتابا واحدا، هو «عودة الروح» لتوفيق الحكيم، وهو رواية وطنية ومؤثرة بلا جدال، ولكن أشك كثيرا فى أن قراءتها يمكن أن يكون لها أثر مهم فى قيام هذه الثورة. وعبدالناصر على أى حال، رغم مزاياه العديدة، لم يكن رجلا واسع الثقافة (بالمقارنة مثلا بالزعيم الهندى نهرو أو اليوجوسلافى تيتو، اللذين قادا معه حركة عدم الانحياز). كان عبدالناصر رجلا وطنيا وذكيا وشجاعا ولكن اتساع الثقافة لم يكن من بين مزاياه، ومن ثم فلا أظن أنه يمكن ان يستمد وحيه من أحد المفكرين.
كان من أول الأعمال الثورية التى قام بها رجال يوليو 1952، إصدار قانون الإصلاح الزراعى فى سبتمبر 1952. وقد كان هذا القانون من بين مطالب بعض السياسيين الوطنيين فى السنوات السابقة على ثورة 1952، وقدم به مشروعا للبرلمان ولكنه رفض بسبب سيطرة الاقطاعيين على هذا البرلمان، واحتاج إصداره إلى ازاحتهم عن الحكم. وقد اشترك فى إعداد صياغة قانون الإصلاح الزراعى بعد الثورة عبدالرزاق السنهورى، القانونى الكبير، والذى كان يتعاطف مع أهداف هذا القانون ولكنى أشك جدا فى أن يكون موقف السنهورى أو غيره من المفكرين ذا أثر حاسم فى التفكير فى إصدار هذا القانون، وأميل إلى الاعتقاد بأن الإدارة الأمريكية فى ذلك الوقت (التى كانت تؤيد بشدة حركة الضباط فى 1952) كان من بين السياسات التى دعمها فى بلاد العالم الثالث فى أعقاد الحرب العالمية الثانية، إصدار قوانين للإصلاح الزراعى،تطيح بسيطرة الإقطاعيين وتفتح الباب لنمو الطبقة المتوسطة، كطريقة للتخلص من السياسيين الموالين للدولتين الاستعماريتين السابقتين (بريطانيا وفرنسا) من ناحية، ولمواجهة خطر التوسع الشيوعى من ناحية أخرى.
لقد اتخذ عبدالناصر خلال الخمسة عشر عاما التالية (52 ــ 1967) إجراءات كثيرة مهمة، أحدثت تغيرات كبيرة فى المجتمع المصرى، بل وفى اتجاه الثقافة المصرية أيضا، ولكنى أجد من الصعب جدا العثور على أى أثر مهم للمفكرين المصريين فى هذه الإجراءات، بمن فى ذلك أكثر المفكرين المصريين اهتماما بالسياسة وبالتغيير الاجتماعى.
لقد تغير اتجاه ثورة 1952 أكثر من مرة، فى الثمانية عشر عاما التى عاشها عبدالناصر بعد قيامها. بدا فى البداية أنها تتجه إلى تشجيع القطاع الخاص والاستثمارات الأجنبية فى مصر، وهو ما أيده بالطبع المفكرون اليمنيون ومعتنقوا المذهب الرأسمالى، ولكن عبدالناصر رفع بعد ذلك بسنوات قليلة شعار النظام التعاونى، دون أن يكون لهذا النظام دعاة معروفون فى الفكر المصرى. ثم تحمس النظام فجأة لنظام التخطيط، بعد تأميم قناة السويس فى 1956، وما تلاه من تأميمات الشركات الأجنبية، فاستعان النظام ببعض المفكرين الاشتراكيين فى تكوين مجلس للتخطيط، وما سمى بالمؤسسة الاقتصادية لإدارة الشركات الأجنبية المؤممة، ولكن حتى فى هذه الحدود كان تأثير المفكرين المصريين محدودا للغاية، إذ كان دورهم ينحصر فى تحويل التوجيهات الآتية من القيادة العليا إلى إجراءات ملموسة دون إفساح المجال لهم لأن يقوموا هم بالتأثير فى فكر القيادة السياسية.
استمر هذا الدور السلبى للمفكرين المصريين، بمن فيهم الاشتراكيون، حتى بعد تأميمات 1961، وإعلان القيادة تبنيها للنظام الاشتراكى بل لقد قام النظام باعتقال قيادات الفكر الاشتراكى فى مصر ابتداء من 1959، وأعلنت الإجراءات الاشتراكية فى غيابهم، بينما كانوا يتجادلون فى السجن فيما إذا كان من الواجب تأييدها أو رفضها، وذلك فى الوقت الذى كان فيه المسئول عن تنفيذ هذه الإجراءات كوزير للمالية والاقتصاد (الدكتور القيسونى) رجلا معروفا بأنه أقرب إلى الفكر الرأسمالى منه للاشتراكية. هكذا قيل بحق فى ذلك الوقت إن عبدالناصر يطبق الاشتراكية دون اشتراكيين.
عندما أطلق عبدالناصر سراح الاشتراكيين فى 1964 لم يكن ذلك إذن بسبب تغيير طرأ على أفكاره بل كان بسبب تغير فى علاقته مع الاتحاد السوفييتى. ولكن حتى هذه العلاقة الطيبة الجديدة بينه وبين المفكرين الاشتراكيين لم تستمر طويلا، ولا كان لها أثر مهم فيما اتخذ من إجراءات بعد خروجهم من السجن، وانتهى الأمر على أى حال بقدوم عهد السادات فى 1970، الذى دشن عهدا جديدا فى العلاقة بين السلطة وبين المفكرين المصريين، لم يكن أفضل من نمط علاقة عبدالناصر بهم.